والقرآن لا يكتفي بكل ذلك، بل يضع أصول الأخلاق التي تجمع
فروعها، وأول ما يفاجئنا في القرآن من هذه الأصول هو هذه الآية التي تجتمع فيها جميع مكارم الأخلاق:{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ( (لأعراف:199)
وقد حاول علماء المسلمين انطلاقا من هذا أن يبينوا وجه
انحصار الأخلاق في هذه الأصول، فقال القرطبي:(
هذه الآية من ثلاث كلمات، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات. فقوله:{ خُذِ الْعَفْوَ } دخل
فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق
المطيعين. ودخل في قوله:{ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض
الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وفي قوله:{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم،
والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة
والأفعال الرشيدة )[1]
ومن الآيات الجامعة أصول الأخلاق ما جاء في القرآن في ذكر
أوصاف المؤمنين:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ( (الحجرات:15)
وقد انطلق الغزالي.. وهو عالم الأخلاق المسلم.. من هذه
الآية ليبين الأصول التي تجتمع فيها الأخلاق، فقال:( فالإيمان بالله وبرسوله من
غير ارتياب هو قوّة اليقين، وهو ثمرة العقل ومنتهى الحكمة، والمجاهدة بالمال هو
السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة، والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى
استعمال قوّة الغضب على شرط العقل وحدّ الاعتدال )
وبما أن الأخلاق تعني التوازن بين لطائف النفس وطاقاتها،
فإنا نرى القرآن يحض على