الليل فصافون أقدامهم تالين لاجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا.. يحزنون به
أنفسهم ويستبشرون به دواء دائهم.. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا
وتطلعت نفوسهم إليها شوقا وظنوا أنها نصب أعينهم.. وإذا مروا بآية فيها تخويف
أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون
على أوساطهم، يمجدون جبارا عظيما، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم،
يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم.. وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء.. قد
براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض. ويقول:
قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم. لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير.
فهم لانفسهم متهمون.. ومن أعمالهم مشفقون إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له فيقول:
(أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بنفسي مني، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون
واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون إنك أنت علام الغيوب وستار العيوب)،
فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزما في لين وإيمانا في يقين وحرصا في علم
وعلما في حلم وقصدا في غنى وخشوعا في عبادة وتجملا في فاقة وصبرا في شدة وطلبا في
حلال ونشاطا في هدى وتحرجا عن طمع. يعمل الاعمال الصالحة وهو على وجل. يمسي وهمه
الشكر ويصبح وهمه الذكر. يبيت حذرا ويصبح فرحا، حذرا لما حذر من الغفلة، وفرحا بما
أصاب من الفضل والرحمة. وإن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحب.
قرة عينه فيما لا يزول. وزهادته فيما لا يبقى. يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل.
تراه قريبا أمله، قليلا زلله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله، سهلا أمره،
حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه، قليلا شره، كثيرا ذكره، صادقا قوله.. الخير
منه مأمول، والشر منه مأمون. وإن كان في الغافلين كتب في الذاكرين. وإن كان في
الذاكرين لم يكتب من الغافلين. يعفو عمن ظلمه. ويعطي من حرمه. ويصل من قطعه.
وبعيدا فحشه. لينا قوله. غائبا منكره. حاضرا معروفه. مقبلا خيره. مدبرا شره. في
الزلازل وقور. وفي المكاره صبور. وفي الرخاء