وهكذا أيقن أن الله تعالى لم يأذن لهم في هذا العام بدخول مكة
مقاتلين، لا بادئين ولا مكافئين، وزجر الناقة فثارت إلى ناحية أخرى ، فنزل بأصحابه
في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة السير امتثالا لهذه الإشارة الإلهية ، وأخذ
يسعى لدخول مكة من طريق الصلح مع قريش قائلا:(والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة
يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ولكن قريشا أبت أن يدخلها في هذا
العام لا محاربا ولا مسالما، وأملت عليه شروطا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل
رجل يجيئه من مكة مسالما، وألا ترد هي أحدا يجيئها من المدينة تاركا لدينه، فقبل
تلك الشروط التي لم يكن ليمليها مثل قريش في ضعفها على مثل المؤمنين في قوتهم،
وأمر أصحابه بالتحلل من عمرتهم وبالعودة من حيث جاءوا.
لقد كان لهذا الصلح وقع السيء في نفوس المسلمين، حتى إنهم لما
جعلوا يحلقون بعضهم لبعض كاد يقتل بعضهم بعضا ذهولا وغما، وكادت تزيغ قلوب فريق من
كبار الصحابة فأخذوا يتساءلون فيما بينهم ويراجعونه هو نفسه قائلين:(لم نعطي
الدنية في ديننا؟) وهكذا كاد الجيش يتمرد على إمرة قائده ويفلت حبله من يده.
أفلم يكن من الطبيعي إذ ذاك لو كان هذا القائد هو الذي وضع هذه
الخطة بنفسه أو اشترك في وضعها أن يبين لكبار الصحابة حكمة هذه التصرفات التي فوق
العقول، حتى يطفئ نار الفتنة قبل أن يتطاير شررها؟ ولكن انظر كيف كان جوابه حين
راجعه عمر: (إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري) أي: إنما أنا عبد مأمور ليس لي
من الأمر شيء إلا أن أنفذ أمر مولاي واثقا بنصره قريبا أو بعيدا، وهكذا ساروا
راجعين وهم لا يدرون تأويل هذا الإشكال حتى نزلت سورة الفتح، فبينت لهم الحكم
الباهرة والبشارات الصادقة، فإذا الذي ظنوه ضيما وإجحافا في بادئ الرأي كان هو
النصر المبين والفتح الأكبر، قال تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا