ومع كل هذا؛ فقد أتته هند يوم الفتح متنقبة؛ فلم يتعرَّض لها،
ولم يسألها عما فعلت؛ بل عفا عنها وصَفَحَ؛ فلما رأت هذا العفو النبيل؛ أكبرته،
ولم تتمالك أن صاحت قائلة: يا محمد؛ لم يكن أهل خباء أبغض إليّ من أهل خبائك قبل
اليوم، وأنا اليوم ليس أهل خباء أحب إليّ من أهل خبائك.
وبعد فتح الطائف؛ خرج وَحْشيّ قاتلُ حمزة هاربًا يلتمس مكانًا
آخر؛ فاختبأ به، فلما أظلّ سُلطان الإسلام هذا المخبأ الَّذِي لجأ إليه وَحْشيّ؛
قال له القائل: إنّك لا تعلم ما نعلم من أمر محمد؛ إنك لن تجد لنفسك مأمنًا إلَّا
عنده؛ فحضره خائفًا؛ فلما وقع عليه نظر محمد، وغض عنه بصره؛ وتذكّر في تلك اللحظة
عمّه حمزة وقتلَه بيدِ هذا الرجل؛ فذَرَفَت الدموع من عينَيه الشريفَتَين، وها هو
القاتل أمامه، ولو أراد أن يقتصّ منه لكان ذلك حقًّا وعدلًا؛ لكنه عفَا عنه،
واكتفي بأن صَرَفَه قائلًا: (إليكَ عنِّي؛ فإنِّي إذا رأيتُك تذكرتُ عمي حمزة
وشهادتَه)
وهذا عِكْرِمَة وأبوه أبو جهل؛ كانا أعدَى عدو للإسلام
والمسلـمين ولمحمد خاصة؛ فأبو جهل آذَى محمدا أذًى لم يؤذَه أحد مثله، وابنه
عِكْرِمَة قاتل المسلمين؛ فلما فتحت مكة خاف علَى نفسه مما فعله هو وأهل بيته
بالنبي والمسلمين؛ ففرّ ناجيًا بنفسه إلَى اليمن، وكانت زوجه قد أسلمت من قبل
وعرفت محمدا حق المعرفة؛ فذهبت بنفسها إلَى اليمن وربطت علَى قلب زوجها وهدأت
روعه؛ ورجعت به إلَى المدينة؛ فلما بلغ محمدا قدومه سارع إليه يرحِّب به؛ حتى سقط
عنه رِداؤه؛ ثم قال لعِكْرِمَة بن أبي جهل ـ وهو فَرِح مسرور ـ: (مرحبًا بالراكب
المهاجِر)
هل تعلمون بمَن يرحِّب محمد، ومَن هو هذا القادم الَّذِي فَرِح
بقدومه حتى سقط عن مِنكبه رِداؤه، وشمله بعفوه وصَفْحه؟ إنّ هذا كله لرجل سَبَقَ
منه قبل إسلامه أن قاتل المسلمين وآذاهم، بل هو ابن الَّذِي ألقى علَيه سَلي جَزُور،
والذي هَمّ أن يهجم عليه وهو يصلِّي في المسجد الحرام، والذي هَمّ أن يخنُقه
بالرِّدَاء، والذي أشار في دار النَّدْوَة بقتله، والَّذِي أوقد نار