ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي؟ أنفدوا الزاد وخسروا
الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم
كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه، فقالوا: هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا
إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء، فقالوا: يا هذا! فقال علام أنتم؟
فقالوا: على ما ترى، فقال: أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون؟
قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم مواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم
بالله لا يعصونه شيئاً، قال: فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراً فمكث فيهم ما شاء
الله ثم قال: يا هؤلاء! قالوا: يا هذا! قال: الرحيل! قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء
ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا
لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم - ألم تعطوا هذا الرجل
عهودكم ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئاً وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم
في آخره؟ فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل)[1]
قال بعضهم:
لقد ذكرني هذا الحديث بمثال سمعته من بعض العلماء ضربه لعاقبة اشتغال أهل الدنيا
بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وخسرانهم العظيم بسببها، فذكر أن مثل أهل الدنيا
في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة، فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملاح بالخروج إلى
قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي
الجزيرة:
فقضى بعضهم
حاجته، وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأفقها
لمراده.
وبعضهم توقف
في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة
[1]
رواه ابن أبي الدنيا هكذا بطوله، ولأحمد والبزار والطبراني أخصر منه وإسناده حسن.