وقال آخر: لا تعترض.. وسلم لربك، فقد فوضت أمرك إليه، ومن
ضرورات التفويض الرضى التام باختيارات المفوض.
وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وأنت عبد محض، والعبد المحض لا
يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن، بل يتلقاها بالرضى به وعنه.
وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وأنت تدعي محبته، والمحب
الصادق من رضي بما يعامله به حبيبه.
وقال آخر: لا تعترض.. فإنك باعتراضك تعبد الله على حرف،
فتتلون كما تتلون رياح المقادير، والعبد الكامل ثابت على عبودية سيده، لا تزعزعه
الرياح، ولا تجتثه عن غايته الأعاصير؟
وقال آخر: لا تعترض.. فإن أول معصية عصي الله بها في هذا
العالم حصاد نبات الاعتراض، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل
آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم.
وقال آخر: لا تعترض.. فإن اعتراضك عن اختيار الله لك ناشئ
من جهلك بالله، وأنه كلما قويت معرفتك صرت كالريشة في مهب الرياح، تقلبها الرياح
كما شاءت، فلا تعترض ولا تختار.
وقال آخر: لا تعترض.. فإن من عرف أن البلايا من مولاه وسيده[1] الذي هو أرحم به من
[1] ربما ترد شبهة هنا، وهي
انه قد يظن أن للشيطان سلطة على عباد الله، وأن له القدرة على إذيتهم وربما يستدل
لهذا بقوله تعالى على لسان أيوب u:) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ (صّ:41)، وبما روي أن
إبليس سأل ربه، فقال هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله: نعم
عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه، فقال: يا رب
إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، وكان يجيئه ويقول له: هلك من مالك كذا وكذا،
فيقول الله أعطى والله أخذ، ثم يحمد الله، فقال: يا رب إني أيوب لا يبالي بماله
فسلطني على ولده، فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، فجاءه وأخبره به فلم
يلتفت إليه، فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده، فأذن فيه، فنفخ في
جلد أيوب، وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين، حتى صار
بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى
امرأته، وقال لو أن زوجك استعان بي لخلصته من هذا البلاء، فذكرت المرأة ذلك
لزوجها، فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة، وعند هذه الواقعة قال:) أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (
وهذا خطأ عظيم، فالشيطان لا
قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، بل هو أضعف من ذلك، والله أرحم
بعباده من أن يسلمهم للشيطان، وقد قال تعالى في بيان قدرات الشيطان وعلى لسانه:) وَمَا كَانَ لِيَ
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا
تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ﴾ (ابراهيم:22)،
ومما استدل به الفخر الرازي على رد تلك الشبهة:
1. أنا لو جوزنا حصول الموت
والحياة والصحة والمرض من الشيطان، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان،
ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات، فقد حصل بفعل الشيطان، وحينئذ لا يكون
لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله تعالى.
2. أن الشيطان لو قدر على
ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم لا يخرب دورهم، ولم لا يقتل
أولادكم.
وقد أجاب على الاعتراض
القائل بأنه (لم لا يجوز أن يقال إن
الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان؟) بقوله:(إذا كان لا بد من الاعتراف بأن خالق
تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى، فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك؟)
أما المراد من الإخبار بمس
الشيطان، فإن القول الصحيح في ذلك هو أن المراد منه هو إلقاء الوساوس الفاسدة
والخواطر الباطنة، وكل ذلك كان يضعه في أنواع العذاب والعناء، وقد اختلف القائلون
بهذا في تلك الوساوس كيف كانت وذكروا فيه وجوها، منها:
1. أن علته كانت شديدة
الألم، ثم طالت مدة تلك العلة، والشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي
حصلت، وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع
إلى الله، وقال: ) أنى مسنى الشيطـان بنصب
وعذاب ( لأنه كلما كانت تلك
الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أشد.
2. أنها لما طالت مدة المرض
جاءه الشيطان وكان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع فخاف من تأكد خاطر القنوط في
قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال: ) أنى مسنى الشيطـان (
3. أن الشيطان لما قال
لامرأته لو أطاعني زوجك أزلت عنه هذه الآفات فذكرت المرأة له ذلك، فغلب على ظنه أن
الشيطان طمع في دينه فشق ذلك عليه فتضرع إلى الله تعالى وقال ذلك.
وكل هذا يمكن قبوله، ووراء
هذا أقوال أخرى يجب تنزيه الأنبياء عنها، ولا تصح روايتها.