تركنا الحجاج يوبخ نفسه ويلومها، ويشتد في لومه لها، ولم
نبتعد إلا قليلا حتى سمعنا صوتا لا يقل عن صوت الحجاج نكارة وخبثا إلا أن صوت
الحجاج أفصح، ولسانه أبلغ.
اقتربنا من
مصدر الصوت، فوجدنا رجلا يرتدي بذلة عصرية، وقبعة إفرنجية، فتعجبت أن يكون مثل هذا
اللباس في مثل هذا المحل، فإذا بالرجل، يمسك بثيابه يريد أن يمزقها، فتحول القيود
بينه وبين ذلك.
تعجبت من هذا
المشهد، فقلت لصاحبي: أهذا مجنون.. ما باله.. إنه يلبس لباسا حسنا في مثل هذا
المحل، ثم هو لا يرضى به، بل يريد تمزيقه.
قال: إن أعظم
ما يعذب به هذا المستبد هذا اللباس الذي يلبسه.
قلت: كيف ذلك؟..
لا أراه إلا لباسا عاديا.
قال: هو عادي
في ظاهره.. ولكنه في حقيقته يرمز إلى أمور خطيرة قام بها هذا المستبد طيلة حياته، وهو
الآن يتعذب لتذكرها[1].
قلت: من هو ـ
أولا ـ حتى أعرف خبره، وأعلم علمه؟
قال: هذا رجل
أراد أن يلغي باستبداده أمة من الوجود، فراح يعيث فيها أنواع الفساد.
قلت: كلهم
يفعل هذا.. فما وجه خصوصية هذا المستبد؟
قال: هذا
المستبد لم يكتف بأموال الناس، ولا بدمائهم، بل راح يستل عروق الإيمان
[1]
أشرت بهذا إلى ما ورد في الحديث من أن من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به، فقد قال
a : (من قتل نفسه بحديدة
فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن شرب
سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل
فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلددا فيها أبدا) رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث آخر، قال a :( من قتل نفسه بشئ في الدنيا عذب به يوم القيامة ) الطبراني في
الكبير.