وأخرج عن نمير المدني قال: قدم المنصور المدينة، ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه، وأنا كاتبه، فاستعدى الجمالون على المنصور في شيء، فأمرني أن أكتب إليه بالحضور وإنصافهم، فاستعفيت فلم يعفني، فكتبت الكتاب ثم ختمته، وقال: والله لا يمضي بك غيرك، فمضيت به إلى الربيع، فدخل عليه ثم خرج، فقال للناس: إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد دعيت إلى مجلس الحكم، فلا يقومنّ معي أحد، ثم جاء هو والربيع، فلم يقم له القاضي، بل حلّ رداءه واحتبى به، ثم دعا بالخصوم، فادّعوا، فقضى لهم على الخليفة، فلما فرغ قال له المنصور، جزاك الله عن دينك أحسن الجزاء قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار.
وأخرج عن محمد بن حفص العجلي قال: ولد لأبي دلامة ابنة، فغدا على المنصور فأخبره، وأنشد:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس
ثم أخرج أبو دلامة خريطة[1]، فقال المنصور: ما هذه؟ قال: اجعل فيها ما تأمر لي به، فقال: املئوها دراهم، فوسعت ألفي درهم.
وأخرج عن محمد بن سلام الجمحي قال: قيل للمنصور: هل بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله؟ قال: بقيت خصلة، أن أقعد في مصطبة وحولي أصحاب الحديث، يقول المستملي، من ذكرت رحمك الله، قال: فغدا عليه الندماء وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم بهم، إنما هم الدّنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، برد الآفاق، ونقلة الحديث.
وأخرج عن عبد الصمد بن علي أنه قال للمنصور: لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمح بالعفو، قال: لأن بني مروان لم تبلَ رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم، ونحن بين قوم قد رأونا أمس سوقةً واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو واستعمال العقوبة.
وأخرج عن يونس بن حبيب قال: كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المنصور يسأله الزيادة في عطائه وأرزاقه، وأبلغ في كتابه؛ فوقع المنصور في القصة: إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعتا في رجل أبطرتاه، وأمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك، فاكتف بالبلاغة.
وأخرج عن محمد بن سلام قال: رأت جارية المنصور قميصه مرقوعًا، فقالت: خليفة وقميصه مرقوع فقال: ويحك أما سمعت قول ابن هرمة:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق، وجيب قميصه مرقوع [1] الخريطة: وعاء من أدم وغيره، انظر: القاموس المحيط "370/2".