سافر من مصر إلى الفرات في طائفة يسيرة جدًّا من الجند ليس فيهم أحد من المقدمين الألوف.
ومن سيرته الجميلة: أنه لم يول مصر صاحب وظيفة دينية -كالقضاة والمشايخ والمدرسين- إلا أصلح الموجودين لها، بعد طول تروية وتمهلة، بحيث تستمر الوظيفة شاغرة الأشهر العديدة، ولم يولِ قاضيًا ولا شيخًا بمال قط.
وكان الظاهر خشقند أول ما قلد قدم نائب الشام حاتم لموافقة كانت بينه وبين العسكر في سلطنته، فأمر الظاهر -حين بلغه قدومه- بطلوع الخليفة والقضاة الأربعة والعسكر إلى القلعة، وأرسل إلى نائب الشام يأمره بالانصراف، فانصرف بعد شروط شرطها؛ وعاد القضاة والعسكر إلى منازلهم، واستمر الخليفة ساكنًا بالقلعة، ولم يمكنه الظاهر من عوده إلى سكنه المعتاد، فاستمر بها إلى أن مات يوم السبت رابع عشري المحرم سنة أربع وثمانين وثمانمائة، بعد تمرضه نحو عامين بالفالج، وصلي عليه بالقلعة، ثم أنزل إلى مدفن الخلفاء بجوار المشهد النفيسي، وقد بلغ التسعين أو جاوزها.
المتوكل على الله أبو العز بن يعقوب1
المتوكل على الله: أبو العز عبد العزيز بن يعقوب بن المتوكل على الله.
ولد سنة تسع عشرة وثمانمائة، وأمه بنت جندي اسمها حاج ملك، ولم يلِ والده الخلافة، ونشأ معظمًا مشارًا إليه محبوبًا للخاصة والعامة بخصاله الجميلة، ومناقبه الحميدة، وتواضعه، وحسن سمته، وبشاشته لكل أحد، وكثر أدبه، وله اشتغال بالعلم، قرأ على والدي وغيره، وزوجه عمه المستكفي بابنته، فأولدها ولدًا صالِحًا، فهو ابن هاشمي ابن هاشميين، ولما طال مرض عمه المستنجد عهد إليه بالخلافة، فلما مات بويع بها يوم الاثنين سادس عشر المحرم بحضرة السلطان والقضاة والأعيان، وكان أراد أولًا التلقيب بالمستعين بالله ثم وقع التردد بين المستعين والمتوكل، واستقر الأمر على المتوكل، ثم ركب من القلعة إلى منزله المعتاد والقضاة والمباشرون والأعيان بين يديه وكان يومًا مشهودًا، ثم عاد من آخر يومه إلى القلعة حيث كان المستنجد ساكنًا بها.
ففي هذه السنة سافر السلطان الملك الأشرف قايتباي إلى الحجاز برسم الحج، وذلك أمر لم يعهد لملك أكثر من مائة سنة، فبدأ بزيارة المدينة الشريفة، وفرق بها ستة آلاف دينار، ثم قدم مكة وفرق بها خمسة آلاف دينار، وقرر بمدرسته التي أنشأها بمكة شيخًا وصوفية، وحج وعاد، وزينت البلد لقدومه أيامًا.
وفي سنة خمس وثمانين خرج عسكر من مصر عليهم الدوادار يشبك إلى جهة العراق فالتقوا مع عسكر يعقوب شاه بن حسن بقرب الرها، فكسر المصريون، وقتل منهم من قتل، وأسر الباقون، وأسر الداودار، وضرب عنقه، وذلك في النصف الثاني من رمضان، والعجيب أن الداودار هذا كان بينه وبين قاضي الحنفية شمس الدين الأمشاطي بمصر وقعة
1 تولى الخلافة 884هـ وحتى 903هـ.