وإنما لحق يققا قولنج فاحتجت إلى حقنه فأنا مشغول بذلك فلما سمعوا قوله ورأوا التلوث في يده نفروا منه واعتذروا إليه وانصرفوا عنه «لتناهيه في القذارة إلى ما لا غاية بعده» «1» كما قالوا وحسبوا، ولعلّه قد غاب عنهم أن أبا الفرج كان بصيرا بعلم «الجوارح والبيطرة والطب» وأنه لا تثريب عليه إذا ما زاول علاج سنوره بيده وطبق العلم على العمل كما يقال. ومن يدري فلعلّ أبا الفرج لو لم يحقن يققا لضاع على مؤرخي الحضارة العربية شاهد عظيم يثبت معرفة العرب لحقن الحيوان وسبقهم إلى ذلك منذ منتصف القرن الرابع الهجري.
وقد فجع أبو الفرج في ديك له رشيق تكاملت فيه جمل الجمال بأسرها، وكسى كالطاوس ريشا لا معا متلألأ ذا رونق وبريق:
من حمرة في صفرة في خضرة ... تخيلها يغني عن التحقيق
وكأن سالفتيه تبر سائل ... وعلى المفارق منه تاج عقيق
فرثاه بقصيدة طويلة تعد من عيون الشعر العربي في رثاء الحيوان، وصار يبكيه كلما أبصر ربعه موحشا أو سمع صياح ديك:
أبكي إذا أبصرت ربعك موحشا ... بتحنن وتأسف وشهيق
ويزيدني جزعا لفقدك صادح ... في منزل دان إليّ لصيق
قرع الفؤاد وقد زقا فكأنّه ... نادى ببين أو نعيّ شقيق
فتأسفي أبدا عليك مواصل ... بسواد ليل أو بياض شروق
وإذا أفاق ذوو المصائب سلوة ... وتصبّروا أمسيت غير مفيق
وكان أبو الفرج في ربيع العمر وريعان الشباب يطلق عقال النفس، ويقيد مراشف الكأس، ويرتاد منازه الحسن، ويطوف بمسارح الجمال لينزه مقلته، ويرشف من رحيقه ما ينقع غلته، ثم يوقع أنغام نفسه وألحان حسه على قيثارة شعره، ويشدو بما يفصح عن إسماح الجميل بعد ليانه، وإطاعة الدهر بعد عصيانه.