فهنّئتمُ النعمى ودامت لكّلكم ... سعادته أن كان قد خانني سعدُ
خرجتم جماعات وخلّفت واحداً ... ولله في أمري وأمركمُ الحمدُ
ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يعلق لها جناح، ولا تعلق بها من الأيام جناح، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك، ولا أعوزها البشام ولا الأراك، وهي تمرح في الجو، وتسرح في مواقع النو، فتنكد مما هو فيه من الوثاق، وما دون أحبته من الرقباء والأغلاق، وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجده وخبله، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه، وحبور حضرته وشهدنه، فقال: طويل
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي ... سوارح لا سجن يعوق ولا كبلُ
ولم تكُ والله المعيد حسادة ... ولكن حنيناً أنّ شكلي لها شكلُ
فإسرح فلاشمل صديع ولا الحشا ... وجيعٌ ولا عينان يبكيهما ثكلُ
وما ذاك ممّا يعتريه وإنّما ... وصفت الذي في جبلة الخلق من قبلُ
هنيئاً لها إن لم يفرَّقْ جميعها ... ولا ذاق منها البعد عن أهله أهلُ
وإن لم تبت مثلي تطير قلوبها ... إذا اهتزّ باب السجن أو صلصل القفلُ
لنفسي إلى القيا الحمام تشوّف ... سواي يحبّ العيش في ساقه كبلُ
ألا عصم الله القطا في فراخها ... فإن فراخي خانها الماءُ والظلُّ
وفي هذه الحال زاره الأديب أبو بكر بن اللبانة المتقدم الذكر وهو أحد شعراء دولته المرتضعين درها، المنتجعين درها، وكان المعتمد رحمه الله يميزه بالشفوف والإحسان، ويجوزه في فرسان هذا الشأن، فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق أعمال قدم، ولا يريق دمعاً إلا ممزوجاً بدم، بعد ما عهده فوق منبر وسرير، ووسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، وتكف الأمطار من راحته، وتشرف الأقدار بحلول ساحته، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه، ويقصر النسر أن يقاربه أو يضاهيه، ندبه بكل مقال يلهب الأكباد، ويثير فيها لوعة الحارث بن عباد، أبدع من أناشيد معبد، وأصدع للكبد من مراثي أربد، أو بكاء ذي الرمة بالمربد، سلك فيها للاختفاء طريقاً لاحباً، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحباً، فمن ذلك قوله: بسيط
لكلّ شيءٍ من الأشاء ميقاتُ ... وللمنى من منائيهن غاياتُ