وصار له من ذلك دنيا طائلة، ومع ذلك لا يقبض منها شيئا، ولا يصرفه من يده، بل تصرف فيها ابن أخيه الشيخ عبد الحق ابن الحاج عبد النبي، ثم من بعده ولده الشيخ محيي الدين حتى مات في حياته سنة ألف وإحدى وسبعين بعد أن صار من العلماء الكبار، ودرس وأفتى في حياة والده، وكان أعجوبة زمانه، ثم بعد موت ولده المذكور صرف في ذلك الشيخ نور الله ابن أخيه الشيخ شمس الدين، ولم يعهد له أنه حاسب أحداً منهم على ما قبض ديناًودنياً، ورمم وأصلح كثيرا من مساجدها ومدافن الأولياء بها، وحصل من الكتب أشياء كثيراً من نفائسها ومشاهيرها من كل علم، وكانت تسعى إليه الولاة والأمراء والموالي والعلماء والمشايخ، وعظمت بركته وعم نفعه، وكثر أخذ الناس عنه من الأقطار الشاسعة.
وممن أخذ عنه ولده العلامة المرحوم الشيخ محيي الدين المتقدم ذكره، والشيخ محمد الخطيب ابن أخيه الحاج عبد النبي، ومنهم ولده العلامة الشيخ محمد تولى إفتاء الرملة من الدولة في أيام والده، فلم يفت في والده إلى أن مات، وعلماء غزة والرملة وبيت المقدس من أجلهم السيد عبد الرحيم بن الشيخ أبي اللطف مفتي الحنفية ببيت المقدس، وأخذ عنه غالب علماء دمشق وفضلائها، منهم من رحل إليه، ومنهم من استدعاه للإجازة منهم: العالم الهمام السيد محمد بن السيد كمال الدين بن حمزة النقيب بها وأولاده الثلاثة السيد عبد الرحمن والسيد عبد الكريم والسيد إبراهيم. وهذا الثالث رحل إليه ومكث عنده مدة وقرأ عليه ومنهم السيد الكامل والعمدة الفاضل محمد بن عجلان نقيب دمشق، ومنهم العلامة علاء الدين الحصكفي، ومنهم العلامة الشيخ أحمد الصفدي، ومنهم الشيخ سعودي بن تاج الدين القباقبي، ومنهم الشيخ محمد المكتبي، والشيخ إبراهيم السؤالاتي، والشيخ درويش الحلواني.
وأخذ عنه من أهل الحرمين جماعة كالشيخ عيسى بن محمد الثعالبي المغربي نزيل مكة، والشيخ محمد بن سليمان المغربي نزيلها أيضا، والسيد محمد ابن رسول البرزنجي نزيل المدينة المنورة، والشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد الرحمن الخياري المدني، والشيخ محمد الأنصاري المدني والشيخ حسن العجيمي المكي.
ومن أهل الروم خلق: كصدر الأعاظم مصطفى باشا ابن الوزير الأعظم محمد باشا الكبرلي، وأخيه الوزير الأعظم أحمد باشا، والمولى عبد الباقي أفندي قاضي القدس.
ومن المغاربة جماعات أجلاء: كالشيخ يحيى بن محمد بن عبد الله الشاوي، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي وغيرهم.
وانتفع الناس به وألحق الأصاغر بالأكابر، والأحفاد بالأجداد. وكان رحمه الله سمحا بالإجازة ما طلبها أحد منه ورده، حريصا على إفادة الناس وجبر خواطرهم، مكرما للعلماء وطلبة العلم، غيورا عليهم ناصرا لهم، دافعا عنهم ما استطاع، وكان ذا هيئة حسنة، لم ير الناظر أبهى منه وجها، يتلألأ وجهه نورا، من اجتمع إليه لا يكاد ينساه من كثرة تواضعه ولين جانبه وكثرة فوائده وفصاحة منطقه وإكرامه الوارد عليه، مجالسه محفوظة من الفحش والغيبة لا تخلو أوقاته من الكتابة إو الإفادة أو المراجعة للمسائل، متين الدين، تهابه الحكام من الولاة والقضاة. وكانت الرملة في زمنه أعدل البلاد وللشرع بها ناموس عظيم، بل وسائر البلاد والقريبة منها، وقل أن تقع واقعة مشكلة في دمشق وبيت المقدس وما والاهما من المدن والقرى غلا ويستفتى بها مع كثرة العلماء والمفتين خصوصا أهل البوادي والأجلاف، إذا وصلت إليهم فتواه لا يختلفون فيها، وكان كلمته نافذة، وشفاعته مقبولة، وكتابته ميمونة، ما كتب لأحد شيئا إلا وانتفع به لصدق نيته وحسن سريرته.
وله الفتاوى المشهورة، جمع فيها ما أشكل وعز نقله واختلف فيه التصحيح. وحواشي على منح الغفار رد فيها غالب اعتراضاته على الكنز. وحواشي على شرح الكنز للعيني، وعلى الأشباه والنظائر، وله على البحر كتابات، وكذلك على الزيلعي وجامع الفصولين. ورسالة سماها مسلك الإنصاف في عدم الفرق بين مسألتي السبكي والخصاف التي في الأشباه، والفوز والغنم في مسألة الشرف من الأم، ورسالة فيمن قال: إن فعلت كذا فأنا كافر، وديوان شعر مرتب على حروف المعجم. وغير ذلك من الكتابات.
وكان بحاثا ما باحثه أحد إلا وظهر عليه. والحاصل أنه خاتمة العلماء الكبار. ما ذكر من أحواله بالنسبة لى جلالة قدره وعلو شأنه قطرة من بحر أو شذرة من عقد.