هذا وإذا كان البصريون قد عُنوا بالقياس ومضوا فيه وأوغلوا حتى تجاوزوا طبيعة اللغة وخصوصها، فقد كان للكوفيين أصولهم وقياسهم وعللهم. وهم لم يقتصروا على الوصف دون الاستدلال والاعتلال. ولا ننسَ قول الكسائي:
إنما النحو قياس يُتبع
وبه في كلِّ أمر ينتفع
بل لا ننس منزلة الفراء في التعليل والقياس، وقد اعتمد الكوفيون على السماع والقياس، كما فعل البصريون، وكان أوائلهم أعنى بالسماع منهم بالقياس، وأشد حرصاً على الوصف منهم على التعليل، كما كان أوائل البصريين أنفسهم. وإذا كان الكوفيون لم يدركوا شأو البصريين في الأخذ بالقياس، وكانوا أدنى إلى القصد منهم إلى الإيغال، فليس صحيحاً أنهم عولوا على كل مسموع. ولو صح أن الكوفيين يعملون بكل شاذ ويقيسون عليه، لما استقام لهم أصل أو حكم أو قياس. وإني لأستشرف قول الأستاذ أحمد أمين، رحمه الله، في كتابه ضحى الإسلام (2/259) : (أما الكوفيون فلم يروا هذا المسلك، ورأوا أن يحترموا كل ما جاء عن العرب، ويجيزوا للناس أن يستعملوا استعمالهم، ولو كان الاستعمال لا ينطبق على القواعد العامة. بل يجعلون الشذوذ أساساً لوضع قاعدة عامة) ، أقول إني لأستكثر هذا القول ولو شد منه قول السيوطي في بغيه الوعاة (إن الكسائي كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلاً ويقيس عليه) .