تعرض بعض طلاب المعروف لبخيل ذي سلطان فتوعده بضرب خمس مئة سوط. قال: وددت أنك قد عجلتها. قال: ولم تستحب تعجيل المكروه؟ قال: لأصير عظةً ونكالاً لمن سأل مثلك. إني تكلفت من هراقة ماء وجهي لك وإعمال فكري اليك وجولان قلبي في ليلي لاختيارك موضعاً لحاجتي شقة وتعباً.
فكما لم أصن وجهي عن ابتذاله فلا تصن رفدك عن اختصاصي به. فانه إن لم يكن لي مجازة بذات اليد فالاجتهاد في الشكر أحد الجزائين، وعلى الله المكافاة في الآخرة اذ قصرت عنها طاقتي، وكل دونها وسعي.
آخر:
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
ومن أحسن ما بلغني في شبيه هذا المعنى:
فعاجو فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وقال بعضهم: ما أحد أعظم علي يداً من رجل بات طول ليلته يتململ على فراشه، فلما أصبح رآني موضع اختياره فذاك لو وهبت له الدنيا لما كان لماء وجهه عوضاً:
ما ماء كفك إن جادت أو بخلت ... من ماء وجهي وان أفنيته عوضا
باب ذم الفقر
قال أكثم بن صيفي: الفاقة تمنه الشرف وتخمل الذكر، وتوجب المذلة:
كم من كريم سيد ماجدٍ ... شيمته خلف واجمال
أخمله الفقر فأزرى به ... وناقصٍ سوده المال
لا تحمد الناس وإن عظموا ... فانما تكرمك الحال
ذو المال معبود وإن لم يكن ... له على الإخوان إفضال
وما عال الفقر على أحد ولا عدل عليه الارد عن الحجة وقورن بالخيبة، وانتكثت دونه الحيل، وضاق عليه الزين، واتسع فيه الشين، وسيم خسفاً وجشم افراطاً وحمل هضيمة وألزم في كل أحواله عاراً ومذمة، وكان ضرعاً مستجدياً. روي في بعض الأحاديث: كاد الفقر يكون كفراً. وأنشد:
المال فيه مجلة ومهابة ... والفقر فيه مذلة وقبوح
آخر:
سميت الدهر حين رأيت دهراً ... يكلفني التنصف للرجال
آخر:
لعمرك ان المال قد يجعل الفتى ... سنياً وان الفقر بالمرء قد يرزى
آخر:
ذريني للغنى أسعى فاني ... رأيت الناس شرهم الفقير
وأصغرهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له كرم وخير
يباعد في الندي وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
ولتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
له فضل عليهم غير عرف ... سوى أن ماله مال كثير
قليل عيبه والعيب جم ... ولكن الغنى رب غفور
وقال بعض الحكماء: المال يسود غير السيد ويقوي غير الأيد.
الفقر يرزي بأقوام ذوي حسب ... وقد يسود غير السيد المال
آخر:
كم سود المال قوماً لا قديم لهم ... وأخمل الفقر سادات من العرب
وفي كتاب كليلة ودمنة: الفقر داعية الى أصحابه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل وللمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة ومجمعة للبلايا. من نزل به الفقر والفاقة لم يجد بداً من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت وأوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن فقد عقله واستنكر حفظه وفهمه، ومن أصيب بفهمه وعقله وحفظه كان أكثر قوله وععمله قيمةً عليه لا له. فإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمناً وأساء به الظن من كان يظنبه حسناً، وإن أذنب غيره ظنوه وكان للتهمة وسوء الظن موضعاً، وليس من خلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب، فإن كانه شجاعاً سمي أهوج، وإن كان جواداً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً. فالموت أهون من الفاقة التي يضطر صاحبها الى المسألة لا سيما من البخيل.
قال: وكان احيحة بن الجلاح ينزل بالمدينة، فافتقر فجفاه اخوانه وأحباؤه وجفته زوجته، ثم أنه اثرى فاستفاد نيفاً وتسعين ببراً للنخل بالمدينة وكان له نخلة على ثلاث منها. فكان يأتيها بنفسه ويسقيها ويتعهدها. فقال في ذلك:
استغن أو مت ولا يغررك ذو حسب ... من ابن عم ولا عمٍ ولا خال
إني اكب على الزوراء اعمرها ... ان الكريم على الإخوان ذو المال
والمال يغشى أناساً لا طباخ بهم ... كالسيل يغشى أصول الدندن البالي