وإنها لكذلك، إذا خفق أقدام وضوضاء وموكب وشيء من الموسيقى، فما لفتت جيدها حتى أبصرت الكونت داخلا يتوكأ على خادمين وله نغم مختلف ... وآهات وأنات، ومع النغم سعال كقرع الطبل. وكان الروماتزم قد دب في مفاصله تلك الليلة وبات يفتل في عروقه وأعصابه، ووعكته الحمى واجتمعت إليه علل الشيخوخة كلها تهنئه بالزفاف، غير أنه لم ينسى مع هذا البلاء كله أن عروسه ترتقبه على المائدة، فحفزه الشوق وعاوده الصبا فطار إليها بجناحين من خادميه ...
ولما بلغ ظلها أفلت الخادمين ثم ارتمى عليها يقبلها رياء ومصانعة، ثم تمسك بها يستند إليها، ثم انحط إلى يمينها، وما كادت تناوله قدح اللبن يرتضعه ... حتى غمره الألم وهاج داؤه، ففتح فاه وصدحت الموسيقى بنغم مختلف من آهات وأنات، ومع هذا النغم سعال كقرع الطبل.
ورأت لويز ذلك المنظر فرقصت أحشاؤها..! فلم تملك المسكينة أن اقتلعت جسمها من الكرسي وانكفأت هاربة على حجرتها، وانطرحت في غمرة أخرى من الألم، وبقيت هناك ملقاة يدار بها، وكانت لم تغتمض في ليلها، فاصطلح على جسمها هم الليل والنهار.
فصل خامس في السنة
وزالت هذه الغشية عن الكونت بعد أيام، كانت العروس فيها من روح الأمل كالمختلعة إذا أخذت كتاب طلاقها، أو الأمة إذا وعدت بعتاقها، وكان دعاؤها لله كلمات لا تعدوهن، تقول: اللهم رحماك! فأنت المصيب وأنا المصابة، تلك قوتك وهذا ضعفي! وكانت إذا حمدت الله تواردت مع زوجها فيما يحمد الله به من حيث لا يشعر أحدهما أوكلاهما، كأن للحب الشديد والبغض الشديد لغة واحدة، فكان هو يقول: الحمد لله إذ لا تراني! وتقول هي: الحمد لله إذ لا يراني!..
وباغتها الرجل منصبا عليها، فلو أن ميتا طالعها من قبره ما كان أروع لها عنه، قلب يسكن من أضلاعه الخربة في شقوق وظهر كالقوس يحمل من روحه سهما ليس له إلا المروق، وعروق ناشرة كأنها في جلده المتغصن خيوط في خروق! ودخل عليها كما يدخل الشتاء بكلوحه وبرده، على الروض النضر والبقية الضعيفة من ورده، ونظرت إليه فلم يقع من نفسها إلا موقع الهموم على الهموم، ولم يكن في عينها إلا كما يكون الحلم في رأس المحموم! وجلس إليها الشيخ يتطفل ويقترح، وكانت لويز تعرف أن السنة أربعة فصول، أما سنتها هذه فكانت فصولها بعد اقتراح هذا البغيض خمسة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، وشهر عسل الكونت! فقد لج الرجل في عناده وأبى إلا أن يكون له ولها شهر العسل، ومما زاده لجاجاً وعتوا أنه كان يخشى أن ينسلخ الشهر، فقد ذهب نصفه في تجرع الدواء لم يبق "للعسل" إلا ريثما يمحق القمر أياما معدودات....
ثم انصرف من لدنها على أن ترصد للسفر أهبته وأن ينطلقا على جناح غراب.
واستقبلت العروس ليلتها وجعلت تقلب وجهها في السماء وترنو إلى النجوم بعينين قد ثبت في إنسانيهما خيال ذلك الرجل كما يثبت خيال القاتل في عين المقتول، فلم تر في النجوم إلا هرم الدهر وتحجر الأيام وقد استيقنت أن نجمها طامس لا محالة وكأنما خرج عن الفلك، وضل في ذلك الحلك! وما هي خطرة الفكر حتى لاح في مرآة نفسها خيال ذلك الشاب اختلبها أياما بالهوى، وكان لها منه الداء وكان له منها الدواء، وأغواها في عرف الناس ولكنه هو ما ضل وما غوى. وكان هذا الفتى فرويا فحلا، ظريف الهيئة، مستوي القامة! عريض الصدر، تام الخلقة وثيق التركيب قد ارتوت مفاصله واستحكم نسجه، وله مع ذلك خلابة، وفي لسانه دعابة، فما أطلى حديثه وأنداه. وما أحلى خبره إذا كان من الغزل مبتداه.