فرق لي المأمون، واستروحت روائج الرحمة في شمائله، ثم أقبل على أخيه أبي اسحق المعتصم وابنه العباس وجميع من حضر من خاصته فقال: ما ترون في أمره، فكل أشار بقتلي إلا انهم اختلفوا في القتلة كيف تكون، فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد: ما تقول يا أحمد فقال: يا أمير المؤمنين إن قتلته وجدك مقلك قتل مثله، وإن عفوت عنه لم تجد مثلك عفا عن مثله، فنكس المأمون رأسه وجعل ينكت بإصبعه في الأرض وقال متمثلاً:
قومي هم قتلوا اميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
فكشفت المقنعة عن رأسي وكبرت تكبيرة عظيمة وقلت: عفا عني والله أمير المؤمنين، فقال المأمون: لا بأس عليك يا عم اعتذر فقلت: ذنبي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أتفوه معه بعذر، وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر، ولكني أقول:
إن الذي خلق المكارم حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة ... وتظل تكلؤهم بقلب خاشع
فعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وحنين والدة بقلب جازع
رد الحياة علي بعد ذهابها ... كرم المليك العادل المتواضع
فقال لي المأمون: لا تثريب عليك اليوم قد عفوت عنك، ورددت عليك مالك وضياعك، فقلت:
رددت مالي ولم تبخل علي به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
أمنت منك وقد خولتني نعماً ... نعم الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية رجعت ... إليك لو لم تهبها كنت لم تلم
البر لي منك وطء العذر عندك لي ... فيما أتيت فلم تعذل ولم تلم
فإن جحدتك ما أوليت من نعم ... إني إلى اللوم أولى منك بالكرم
فقال المأمون: إن من الكلام كلاماً كالدرر وهذا منه، وأمر لإبراهيم بمال وخلع وقال: يا إبراهيم إن أبا إسحاق والعباس أشارا بقتلك فقلت: إنهما نصحا لك يا أمير المؤمنين، ولكن أبيت إلا ما أنت أهله، ودفعت ما خفت بما رجوت، فقال المأمون قد مات حقدي بحياة عذرك وعفوت عنك، وأعظم من عفوي عنك أني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين، ثم سجد المأمون طويلاً ثم رفع رأسه فقال: يا إبراهيم أتدري لم سجدت؟ فقلت: شكراً لله الذي أظفرك بعدو دولتك فقال: ما أردت هذا ولكن شكراً لله على ما ألهمنيه من العفو عنك، فحدثني الآن حديثك، فشرحت له صورة أمري وما جرى لي مع الحجام والجندي والمولاة التي أسلمتني، فأمر المأمون بإحضارها وهي في دارها تنتظر الجائزة فقال لها: ما حملك على ما فعلت مع إنعام إبراهيم وأهله عليك؟ فقالت: رغبة في المال. فقال لها: هل لك ولد أو زوج قالت: لا، فأمر بضربها مائتي سوط وخلدها السجن. ثم قال: أحضروا الجندي وامرأته والحجام فأحضروا، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل فقال: الرغبة في المال فقال له المأمون: أنت أولى أن تكون حجاماً من أن تكون من أوليائنا ووكل به من يلزمه الجلوس في دكان الحجام ليتعلم الحجامة، واستخدم زوجته بعد الإحسان إليها قهرمانة في قصره، وقال هذه امرأة عاقلة أديبة تصلح للمهمات. ثم قال للحجام: لقد ظهر من مروءتك ما تجب به المحافظة عليك، وسلم إليه دار الجندي ودابته، وخلع عليه وأثبته برزقه وزيادة ألف دينار في كل سنة ولم يزل بخير إلى أن مات.
حكاية
حدث سليمان بن وهب قال: لما نكبني الواثق قال لمحمد بن عبد الملك الزيات: عذب سليمان وضيق عليه، وصادره وطالبه بالأموال. قال سليمان " فألبسني جبة صوف وقيدني وضيق علي، وكان يحضرني في دار الواثق ويخاطبني أغلظ مخاطبة ويهددني ويعاملني أقبح معاملة وأشنعها، ويكتب المخبرون بذلك إلى الواثق فيعجبه، فإذا كان الليل أمر محمد بن عبد الملك بنزع قيودي وتغيير ثيابي، ويطرح لي مصلى ويأنس بي ويأكل ويشرب معي، ويشاورني في أموره، ويفضي إلي بأسراره، فإذا كان وقت انصرافي عنه ضرب بيده على كتفي وقال: يا أبا أيوب هذا حق المودة، وذاك حق السلطان، لا تنكر هذا ولا تنكر ذاك، فأشكر له فعله فإذا كان في غد عدنا إلى ما كنا عليه كأنا ما تعارفنا.
حكاية