العتبي عن أبيه قال: قدك " زيد " بن منية من البصرة على معاوية، وهو أخو يعلى بن منية صاحب الجمل جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة، وكانت ابنة يعلي عند عتبة بن أبي سفيان. فلما دخل على معاوية شكا إليه دينه. فقال: يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً. فلما ولى. قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفاً " أخرى " ثم قال: الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم على عتبة مضر فقال: إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف، ألبس لك أردية الليل مرة وأخوض لجج السراب أخرى، موقراً من حسن الظن بك، وهارباً من دهر قطم، ودين لزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين. فقال عتبة: إن الدهر أعاركم غنى وخلطكم بنا، ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد بقي لكم منا ما لا ضيعة معه، وأنا أرفع يدي ويدك بيد الله، فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية. حكاية
قال الأصمعي: مررت ببعض أحياء العرب وكنت أروي أشعارهم وأطرف أخبارهم، فخرجت من الحي وكأنني لم أدخله، فرماني الدهر إلى بعض الأفاريق، فاستسقيت من أهل الفريق ماء فلم أسق، فخرجت من الحي فانتهيت إلى بيت مفرد فاستسقيت أهله ماء فخرجت إلي جارية وبيدها قعب من لبن، وفي الأخرى وعاء فيه ماء. فقالت: يا هناه، هذا ماء وهذا لبن، فأيهما شئت فابدأ، وإن أردت الطعام فهو لك معد فعجبت من سخائها عند بخل قومها ومبيتي بينهم، ثم شكوت إليها بخل قومها فقالت: اسمع مني ثم طفقت تقول:
خذ من الناس ما تيسر ... ودع من الناس ما تعسر
فإنما الناس من زجاج ... إن لم ترفق به تكسر
فانصرفت بالبيتين، ولهما أحب إلي من مائتي دينار، ثم رأيت نشزاً عالياً عليه بيت مفرد فقلت: ما هذا البيت الذي أرى إلا الذي كرم، ولعلي أجد فيه عالماً فأممته، فلما دنوت منه إذا رجل قائم على الباب، فلما رآني ولج البيت فولجت في أثره فخرج من كسر البيت فخرجت في أثره، فتبعته فنظر إلي ثم وقف فبكى بكاءً عالياً، وأنشأ يقول:
وقفت وقوف الشك ثم استمر بي ... يقين بأن الموت خير من الفقر
وقائلة تخشى علي من الردى ... وللموت خير من حياة على عسر
سأسكب مالاً أو أموت ببلدة ... يقل بها فيض الدموع على قبري
فقلت: هذا كلام أديب، وشعر لبيب، فزدني من كلامك، زادك الله من كل خير، فقال:
رزقت لباً ولم أرزق مروءته ... وما المروءة إلا كثرة المال
إذا أردت مساماة تقاعدني ... عما ينوه باسمي رقة الحال
فقلت له: يا هذا إني جليس الخليفة فلعلي أزرع لك عنده خيراً، فزدني من كلامك وحسن نظامك، فطفق يقول:
من يزرع الخير يحصد ما يسر به ... وزارع الشر منكوس على الرأس
إن الأولى كان يرجى فضا نائلهم ... أضحوا لدي جدث في بطن ارماس
فأتيت بمقالته الرشيد فأعجب بها ودفع إلي ألف دينار وأمرني بالرجوع قبل إلمامي بأهلي، وقال: تدفعها إلى الرجل، وإن لم تلقه فادفع المال إلى أقرب الناس إليه، فأتيت الحي وقصدت البيت، فإذا بالبيت قد قوض، فسألت عنه، فقبل أنه دعي فاجاب، فسألت عن أقرب الناس إليه فقيل لي: صاحبة هذا البيت المفرد فأتيته، فإذا هي صاحبتي التي سقتني الماء، فسألتها عن أخيها، فقالت: يا هناه كان والله يحمل المغارم، ويبتني المكارم، ويدفع العظائم، أسلمه قومه للنوائب، وتركوه للمصائب، فهلك والله ضياعاً، ولم يخلف متاعاً، فقلت لها يا هذه إن معي ألف دينار حباك بها أمير المؤمنين. فقالت: وصل الله أمير المؤمنين بالكرامة، وأجزل له الثواب في دار المقامة. ثم قالت: والله لنحن أكرم من أن يجتمع عندنا ألف دينار نحاسب بها ونعذب إليها، ثم قالت لخادمتها: ائتني بعجائز الحي، فأتتها بخمسين عجوزاً فقسمت المال بينهن، ولم تدخر منه إلا ما أصاب واحدة منهن. حكاية
قيل كان لكثير عزة غلام تاجر فأتى الشام بمتاع يبيعه فأرسلت عزة امرأة تطلب لها ثياباً، فوقفت على غلام كثير وهي لا تعرفه، فابتاعت منه حاجتها ولم تدفع الثمن فكان يختلف إليها مقتضياً فأنشد ذات يوم من قول مولاه:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها