حدث صالح بن علي الأضخم " وكان من وجوه الكتاب قال: طالت بي " العطلة وبلغ بي ذلك أعظم الحاجة فبكرت يوماً إلى أحمد ابن أبي خالد الوزير لأعلمه بخلل أحوالي وأسأله لم شعثي. فخرج من بابه وبين يديه الشمع قاصداً دار المأمون. فلما نظر إلي أنكر بكوري وعبس في وجهي وقال: في الدنيا أحد بكر هذا البكور ليشغلنا " عن أمورنا ". فقلت ليس العجب منك أصلحك الله فيما لقيتني به، إنما العجب مني إذ سهرت ليلي وأسهرت جميع أهلي ترقباً للصبح حتى أصير إليك في صلاح أحوالي بعد وقوع الاختيار عليك فيما أؤمله عندك. لكن علي وعلى " وحلف بأيمان البيعة " إن وقفت لك بباب أو سألتك حاجة حتى تصير إلي معتذراً مما لقيتني به، وانصرفت مغموماً مفكراً فيه، نادماً على ما فرك مني من اليمين، آيساً من الفرج لاستبعاد مجيء الوزير إلي، واعتذاره لي، راجعاً باللوم على نفسي، فإني كذلك إذ دخل علي بعض الغلمان، فقال إن الوزير أحمد بن أبي خالد أخذ في شارعنا، ثم دخل آخر فقال: إنه دخل دربنا، ودخل ثالث فقال: إنه قرب من بابنا فدخل آخر فقال: قد دخل دارنا فخرجت مستقبلاً له فلما استقر به المجلس قال لي: كان أمير المؤمنين قد أمرني بالبكور إليه في بعض مهماته فدخلت إليه وقد بلغ بي السهر والغم بما فرط مني إليك حتى أنكر حالي فقصصت عليه القصة. فقال: قد أسأت إلى الرجل ولا عليك أن تعتذر إليه، قلت: فامضي إليه فارغ اليد قال فتريد ماذا؟ فقلت: تقضي دينه فقال: وكم ذلك؟ فقلت ثلاثمائة ألف درهم فأمرني بالتوقيع لك بها. فقلت: يا أمير المؤمنين إذا قضى دينه فيرجع إلي ماذا، قال وقع له بثلاثمائة ألف أخرى يصلح بها حاله. قلت: فولاية يشرف بها، قال: وله أو غيرها مما يشبهها قلت: فمعونة يستعين بها على سفره فأمر أن يوقع لك بمائة ألف درهم، وهذه التوقيعات كلها لك بكل ذلك ونثرها من كمه وانصرف.
حكاية
قيل نذر المهدي دم رجل من أهل الكوفة، وكان يسعى في فساد دولته، وجعل لمن دل عليه أو جاء به مائة ألف درهم فأقام الرجل حيناً متوارياً ثم أنه ظهر بمدينة السلام فبينا هو يمشي في بعض نواحيها إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه فأخذ بمجامع ثيابه وقال: هذا بغية أمير المؤمنين. فبينا الرجل على تلك الحال إذ سمع وقع الحوافر من ورائه فالتفت فإذا معن بن زائدة. فقال: يا أبا الوليد أجرني أجارك الله فوقف وقال للرجل الذي تعلق به: ما شأنك قال: بغية أمير المؤمنين الذي نذر دمه، وأعطى لمن دل عليه مائة ألف درهم. فقال: يا غلام انزل عن دابتك واحمل الرجل عليها فصاح المتعلق به ياللناس: أيحال بيني وبين طلبة أمير المؤمنين. فقال له معن: اذهب وأخبره أنه عندي. فانطلق الرجل إلى باب المهدي فأخبر الحاجب فدخل إلى المهدي فأخبره، فأمر بإحضار معن، فأتته الرسل فدعا أهل بيته ومواليه وقال لا يصل هذا الرجل شر وفيكم عين تطرف ثم سار إلى المهدي فدخل وسلم، فلم يرد عليه السلام، قال: يا معن أتجير علي قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ونعم أيضاً واشتد خضبه فقال يا أمير المؤمنين قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة عشر ألفاً، إلى أيام كثيرة قد تقدم بلائي وحسن غنائي، فما رأيتموني أهلاً أن يوهب لي رجل واحد استجاربي. فاطرق المهدي طويلاً ثم رفع رأسه وقد سري عنه. وقال: قد أجرنا من أجرت يا معن. قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه. قال: قد أمرنا له بخمسين ألف درهم. قال: يا أمير المؤمنين إن صلات الخلفاء تكون على قدر جنايات الرعية، وإن ذنب الرجل عظيم، فاجزل له الصلة. قال: قد أمرنا له بمائة ألف درهم قال: فعجلها له يا أمير المؤمنين، فإن الخير أعجله فأمر بتعجيلها له. فانصرف معن بالمال إلى الرجل، وقال له: خذ صلتك والحق بأهلك وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى.
حكاية
قال أبو عبد الله النديم: لقد رأيت الملوك في مقاصيرها ومجامعها فما رأيت أغزر أدباً من الواثق، خرج علينا ذات يوم وهو يقول: لعمري لقد عرض عرضه من عرضه لقول الخزاعي
خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن امرأ قد ضن عني بمنطق ... يسد به فقر امرئ لضنين