رأيتُ جميلَ الأزدِ قد عقَّ أمهُ ... فناك أبو دُهمانَ أمَّ جميلِ
فحمل يحيى بن خالد بعد ذلك إلى الديوان بمدينة السلام عمال فارس وفيهم أبو دهمان وجميل، فرفعوا حسابهم ونُوظروا بحضرة يحيى فرد أمر أبي دهمان إلى جميل فألزمه مالاً في حسابه، فقال أبو دهمان: احفظ الصهر، فغضب، وسمعها يحيى فسأله عن معنى الصهر، فأنشده بيت أبي الشمقمق. فضحك وأمر بإبراء أبي دهمان مما لزمه من المال.
حدث أحمد بن أبي طاهر وغيره قال: قال إسحاق الموصلي: وفد أبو دهمان على سعيد بن سلم بأرمينية، فأطال حجابه ثم أذن للناس إذناً عاماً فدخل في غمارهم فقال: إني والله لأعرف أقواماً لو علموا أن سفَّ التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مُسكةً لأرماقهم، إيثاراً للتنزه عن عيشٍ رقيق الحواشي، إني والله لبعيد الوثبة، بطيء العطفة، وما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفني عنك، ولأنْ أكون مُملقاً مقرباً أحب إلى من أن أكون مكثراً مبعدا، والله ما نسأل عملا إلا نضبطه، ولا مالاً إلا ونحن أكثر منه، وإن هذا الذي صار في يدك قد كان في يد غيرك فأمسوا - والله - حديثاً إن خيراً فخيرا، وإن شراً فشرا فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الجانب فإن حبهم موصول بحب الله وهم شهداؤه على خلقه وأمناؤه من اعوج عن سبيله ثم قال:
وأنزلني ذُلُّ النوى دار غربةٍ ... إذا شئتُ لاقيتُ الذي لا أُشاكِلُهْ
فحامقتهُ حتى يُقالَ سجيةٌ ... ولو كان ذا عقل لكنتُ أُعْاقِلُهْ
وأنشد محمد بن القاسم قال: أنشدتُ لأبي دهمان:
من دونِ حبك قد أحببتُ حُماكا ... أظُنها دونَ خلقِ الله تهواكا
حُماك جماشةٌ حُماكَ عاشقةٌ ... لو لم تكن هكذا ما قبلتْ فاكا أبو البيداء الرياحي
شاعر مجيد أعرابي نزل البصرة وأقام بها عمره أخبرني أحمد بن يحيى عن محمد بن سلام أنه كان فصيحاً راويةً يؤخذ عنه العلم، قال الجاحظ عن بعض رجاله، قلت لأبي البيداء أنشدني بيتاً من قولك، فأنشدني:
قال فيها البليغُ ما قال ذو الع ... ي فكلُّ بوصفها مِنطيقُ
وكذاكَ العدوُّ لم يعد أن ق ... لَ جميلاً كما يقولُ الصديقُ
قال: فقلت: من هذه التي وهبت لها لبك؟ قال: أمي والله وسمعي وبصري.أنشد حماد بن إسحاق الموصلي لأبي البيداء وحدثني محمد بن القاسم قال: أنشدنيها دماذ قال: أنشدني أبو البيداء:
إذا ما أبو البيداء رمتْ عظامه ... فسرك أن يحيا فهاتِ نبيذا
نبيذاً إذا مرَّ الذبابُ بدنهِ ... تقطعَ أواخرَّ الذبابُ وقيذا
حدثني محمد بن القاسم قال: حدثني دماذ قال: كان لأبي البيداء ابن يقال له ديسمٌ فمات، فرأيته قائماً على قبره وهو يدفن وهو يقول:
احثُوا على ديسمَ منْ جعدِ الثرى ... أبي قضاءُ الله إلا ما ترىِ
حدثني أحمد بن عمار قال: حدثني الفضل بن الحسن المصري قال: لما مات أبو البيداء رثاه أبو نواس فقال:
هل مُخطئٌ يومه عُفرٌ بشاهقةٍ ... يرى بأخيافها شثاًّ وطُباقَا
مُسورٌ منْ حِباءِ الله أسورةً ... يركبنَ منه فويقَ القينِ والساقَا
أو لقوةٌ أمُّ إنهيمينْ في لجفٍ ... شبيهتيها شفا خطمٍ وآماقَا
مُهبل ذئبها يوماً إذا قلبتْ ... إليه من مُستكف الجو حِملاقَا
فات النعاةُ أبا البيداءِ مُخترماً ... ولم يُغادرْ له في الناس مِطراقَا
ويلُ أمهِ صلُّ أصلال إذا جعلوا ... يفشونَ دونَ معاني القولِ أغلاقَا
فليسَ للعلمِ في الأقوام باقيةُ ... عاقَ العواقي أبا البيداءِ فانعَاقا
عاصم بن محمد المديني
المبرسم، مولى العمريين، وهو ينتمي إلى لخم، وكنيته: أبو صالح شاعر مجيد، ذكر دعبل أنه ابن أبي عاصم الأسلمي. وكلاهما قد مدح الحسن عاصم المبرسم يصحب الحسن وينقطع إليه، وكان خبيث اللسان كثير الهجاء. ومن قوله في بني العباس:
ودت قريشُ على البغضاءِ أنكمُ ... كنتمْ لهمْ صمغةً بالأسرِ تقتلعُ