وأجلت غياباتُ الصبا بعد دَيمها ... وبانَ عمى للجهلِ بعْدَ المخَايل
فلو كُنتُ بعد الشيبِ طالبَ صبوةٍ ... لأصبي فؤادي نسوةٌ بجَلاجِل
عفيفاتُ أسرارٍ، نَعيماتُ زينةٍ ... كثيراتُ إخلافٍ بعيداتُ نائلِ
إذا قلتُ ديني عاجلٌ قلنَ ماله ... محلٌّ علينا يا فتى دون قابل
فإن كُنتَ تَرجو مثلَ ذلك فانتظِرْ ... وإلا فلا تطمحْ لدينا بعاجلِ
أشرُّ ديُون المسلمين علاقةً ... على ظهرِ مِخلافٍ صَمُوتُ الخَلاخلِ
القِصافي
واسمه عمرو بن نصر التميمي، وكنيته أبو الفيض، بصري. قال دعبل: قال القِصافيُّ الشعرَ ستينَ سنةً، لم يقل بيتاً جيداً إلا هذا البيتَ في الإِبل:
خُوصٌ نواجٍ إذا صاحَ الحُداةُ بها ... رأيتَ أرجُلها قُدامَ أيديِها
وقال أبو هِفانَ: لم يكن في جميع الشعراءِ الرشيديين أحسن ابتداءاتٍ من عمرٍو القصافي. ومن ذلك قوله:
راحُوا ولما يُؤذنُوا برَوَاح.
وقوله:
لا نومَ حتى تقضي دولةُ السهرِ
وقوله:
غيري أطاعَ مقالةَ العُذالِ
وقوله:
في دمعهِ الجاري وإعوالهِ ... ما يُخْبِرُ السائلَ عنْ حالهِ
وفيها يقول:
رحلْتُ عِيساً كلها عامِلٌ ... في حالِ إِرْقَالي وإرْقَالِهِ
حتى تناهينْ إلى ماجدٍ ... صبٍّ إلى طلعةِ سُؤالهِ
قال أبو هِفان: وكان لا يَمْدَح إلا وضيعاً مثل فرجٍ الرُّخجي وطبقته، فسقط كثيرٌ من شعره. وكان له ابنٌ يُعرف بالقصافي، يكنى أبا نصرٍ. أدركناه نحن. ومن قوله:
فتائقُ أنوار ولونُ شقائقِِ ... يُمازِج أمواهَ الصَّفاح الرقائِقِِ
ونشرُ عبيرٍ معْ نسيم مُدامةٍ ... تجسم في أعضا بُدُورٍ رَشائقِِ
يميسُ فتلقاه كأنَّ ثيابه ... سُدلِنَ على غُصنٍ من البَانِ رائقِِ
عجبت له أنى يكونُ مُنعماً ... وقد كاد يخفى عن عيونِ الخلائقِِ
وأخبرني ابن أبي طاهرٍ قال: أهدي أبو أبوبَ ابن أختِ أبي الوزير إلى محمد بن مكرم قدرَ سِكْباجٍ، وعنده القصافي الشاعرُ الأصغر. فقال:
ومُحتَفِلٍ أهدى لنا سِكباجةً ... تظرفَ لما زَلها من غِذائهِ
أتانا بها بيضاءَ لا الخلُّ مَسها ... ولا هي صُبتْ مرةً في إنائه
قال أبو هِفان: كان القصافي الكبير يقول: الشعرُ كله من هذه الألفاظ، ولكن الشأن في عقل يُحسن أن يعرفها ويُؤلفها، وإذا مدحت قلتَ: أنتَ، وإذا هجوتَ قلتَ: لستْ، وإذا رثيتَ قلتَ: كُنت ". البطين بن أُمية البجلي
وكنيته: أبو الوليد، حمصيُّ جيدُ الشعرِ.
ومن قوله:
دعوني وكلباً إنني اليوم إلبُها ... كما هي لي في كلِّ نائبةٍ إلبُ
ألا لا أُبالي عتبتَ منْ كان عاتباً ... يهزُّ على الرأسَ ما رضيتْ كلبُ
وأنشد دِعبلُ لأبي خالدٍ الغنوى يهجو البطين:
وإنَّ حراً أدى البطينَ بزحْرةٍ ... ولم يتفتقْ قطره لرحيبُ
وإن زماناً أنطقَ الشعر مثله ... وأدخله في عدنا لعجيبُ
ويحشرُ يومَ البعثِ أما لسانه ... فعىُّ، وأما دبره فخطيبُ
قال أبو هِفان: وكان الفيلُ دون البطين في العظم.
وأنشد دعبلٌ لابن أبي عاصمٍ الشامي في البطين:
وقلت معدٌّ إذ عرفت لنا الربا ... وكهلانُ صنوا نبعةٍ شكرانِ
وأملت من هذا وذاك سفاهةً ... تداني أمرٍ ليس بالمتداني
فبكَّ عبيداً إذ تخونه الثرى ... ولا تبكه من نكبة الحدثانِ
ألم بنا صُبحاً فصادف معشراً ... أقاموا له إذْ حلَّ سُوقَ طعانِ
قال أبو هِفان: حدثني يوسفُ ابن الداية قال: حدثني البطينُ بن أُمية الحمصي قال: لما خرج أبو نُواسٍ إلى مصر يريد الخصيب كتب إلينا بخبره فلم نزل نتوقعه حتى قيل: قد دخلَ حمصَ، فأتيتُ الخانَ أسألُ عنه: ومعي ابنٌ لي حسنُ الوجهِ إذا أنا في الخان بإنسانٍ قاعدٍ على درجة متشحٍ بخلوقية يستاكُ، فقلت: يا فتى، تعرفُ أبا نواس؟