نام کتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي نویسنده : شوقي ضيف جلد : 1 صفحه : 134
ترى تحت أعينها هجوم الدول المجاورة من الفرس والروم والحبش على أطرافها، كما كانت ترى هجوم الديانتين المسيحية واليهودية على دينها الوثني؛ فتجمعت قلوبها حول مكة، وهوت أفئدتها إليها؛ وبذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها في الجاهلية اللهجات القبلية المختلفة، وأن تصبح هي اللغة الأدبية التي يصوغون فيها أدعيتهم الدينية وأفكارهم وأحاسيسهم. وقد تدل على ذلك بعض الدلالة سوقها عكاظ؛ فقد كانت سوقًا أدبية كما كانت سوقًا تجارية، وكان الخطباء يرتجلون فيها خطبهم وينشد الشعراء قصائدهم، ولم يُرْوَ ذلك عن سوق سواها. ومما يدعم هذا الدليل ما قاله الرواة من أن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردوه منها كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته:
طحابك قلب في الحسان طروب
فقالوا: هاتان سمطا الدهر1".
وإذن فنحن لا نعدو الواقع إذا قلنا إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب؛ بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين. وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران. ومما يؤكد ذلك أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدِّثنا رواة الأخبار والسيرة النبوية أنها كانت تجد صعوبة في التفاهم معه، وأيضًا فإنه كان يرسل إليهم دعاة يعظونهم ويعلمونهم الشريعة الإسلامية من مثل معاذ بن جبل، ولو أنهم لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى؛ لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثًا. وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام.
أما في الشمال فقد كانت الفصحى معروفة في كل مكان، وكان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم، ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة سرعة استجابتهم للقرآن الكريم ودعوته؛ فإنهم كانوا يفهمونه بمجرد سماعه، فإذا عرفنا أنه نزل بلغة
1 أغاني "ساسي" 21/ 112.
نام کتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي نویسنده : شوقي ضيف جلد : 1 صفحه : 134