نام کتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي نویسنده : شوقي ضيف جلد : 1 صفحه : 324
سوداوان كأنهما مكحولتان تحدُّ بهما النظر إلى ما حولها.
وعلى هذا النحو يعرض علينا زهير تلك البقرة بهيئة جسدها وهيئة نفسها، لنستعد إلى ما سيفجؤها من كوارث. وهو يثبت هيئتها في نفوسنا بما يصوره من تفاصيل جسدها ولون خديها وعينيها. ولا يلبث أن يصور لنا فاجعتها في ولدها، وقد أعدنا لذلك منذ البيت الأول؛ فهي مسافرة، مسرعة في العودة، وقد أخذها الذعر. لقد خرجت تطلب الري والرعي، وعاودها الحنين إلى ولدها؛ بل عاودها الخوف الشديد، وكأنها تعرف أنها تركته وراءها للسباع. وعادت ويالهول ما رأت، لقد رأت بقايا ابنها من أشلاء وجلود ودماء، والطير تحجل حوله؛ فأخذها الحزن الشديد. إن أملها في الحياة فقدته. وقد عادت تجري في الصحراء مذعورة تتلفت يمينًا وشمالًا تنظر هل هناك ما تخشاه، وإنها لتخشى رماة عشيرة الغوث الذين تعودوا أن يطاردوها بسهامهم وكلابهم من كل مرصد. ومرت على جانبها الأيمن، كأنها تظنه أكثر أمنًا، وهي تتراءى في لونها الأبيض وقوائمها المخططة كأنها الثوب الناصع الجميل، ولم تكن تدري أن الموت يرصدها؛ حتى رأت رأي العين رماة الغوث، وقد أخذوا عليها جميع الطرق والمسالك، وأرسلوا عليها كلاب الصيد؛ فولت مسرعة، والكلاب تلاحقها وهي تارة تسبق أوائلها، وتارة تلحقها الكلاب فتنوشها بقرنيها. وما زالت تعدو حتى أفلتت من غمرة الموت يسعفها قرنها الأسود وما أثارته بينها وبين الكلاب من غبار كأنه الدخان. ويصور زهير سرعة قوائمها وخفة حركتها بخذاريف الصبيان التي يديرونها دورانًا سريعًا بخيوط يشدونها إلى أيديهم، وقد سبقه امرؤ القيس إلى هذه الصورة في وصف سرعة فرسه؛ إذ قال فيه كما مر في غير هذا الموضع:
دَريرٍ كَخُذروفِ الوَليدِ أَمَرَّهُ ... تَقَلُّبُ كَفَّيهِ بِخَيطٍ مُوَصَّلِ
وقد حاول زهير أن يضيف زيادة جديدة فجعل القوائم ملتئمات أي متناسقات كما جعلها متقابلات، كخذاريف لا كخذروف واحد، يقابل بعضها بعضًا.
والحق أننا نحس إزاء زهير أنه استوفى كل ما كان ينتظر الشاعر الجاهلي من براعة في التصوير. وقد كان يحف هذه البراعة بضروب من الوقار تتضح في مدائحه وأهاجيه وغزلياته جميعًا؛ فهو يحتفظ بكرامته دائمًا، ولعل ذلك ما جعله ينفر من
نام کتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي نویسنده : شوقي ضيف جلد : 1 صفحه : 324