خرج مجاهدًا في سبيله ابتغاء لمرضاتي ضمنت له إن أرجعته أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته غفرت له". وصور صلى الله عليه وسلم ما أُعد للمجاهد من أجر في الآخرة، فجسده محرم على النار؛ إذ لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في أنف مسلم، وما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار. وكل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمي عمله إلى يوم القيامة، فيؤمن من فتنة القبر. ومن مات مرابطًا في سبيل الله أمن الفزع الأكبر، وغدى عليه برزقه وريح الجنة. وطوبى لعبد آخذ بعِنَان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، يطير على متن فرسه كلما سمع هيعة أو فزعة يبتغي القتل. ورباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوطه من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها. والقوة الرمي، فمن تركه بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة كفرها. والخيل أجر وستر، ومعقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
بهذا كان صلى الله عليه وسلم يحضهم على الجهاد، ويدفعهم إلى الاستعداد له، ويدعوهم إلى استكمال ثقافتهم العسكرية، ويشهد بنفسه ملاعبتهم لسيوفهم ورماحهم وضروب فروسيتهم وعَدْوهم، ويعجب بهم ويبدي استحسانه لما يرى من صنيعهم، ويزين لهم تعليم أولادهم ركوب الخيل والعدو وحيل الحرب وأفانين القتال والرماية والسباحة، ويرغبهم في التجمل بخلائق الفرسان، في النجدة والشجاعة ونبذ الجبن والخنوثة.
فأثمرت هذه التعاليم ثمرتها، فكان الجهاد بلورة نورانية تجذب وجدان المسلمين، وتلهب مشاعرهم، وصورة متألقة في ضميرهم، تبدو الدنيا فيما مجازًا للآخرة، والآخرة ثوابًا للدنيا، فيعيش من عاش فيها سعيدًا، ويموت من مات فيها شهيدًا. ومن هنا حرصوا على الموت أكثر من حرصهم على الحياة، لا يجزعون أمامه، وهم مؤمنون بأن كل شيء قد قدر تقديرًا {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ، وأن حينهم سوف يواتيهم في ميقات معلوم ولو كانوا في بروج مشيدة. فما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسهم إلا في كتاب، ولو كانوا في بيوتهم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، ولن يصيبهم بعد هذا إلا