نام کتاب : في الأدب الحديث نویسنده : الدسوقي، عمر جلد : 1 صفحه : 317
فلا بدع إذا وجد في أثره الطلب حين أخفقت الثورة؛ إذ رأى فيه توفيق والإنجليز المحرِّضَ الأكبر للثوار وناشر آرائهم، بقلمه ولسانه، ولكنه اختفى من وجه السلطة فلم يعثر عليه؛ لأنه كان يعلم جد العلم أنه لن يغفر له ذنب، أو تقال له عثرة إذا أسر، ولن يجديه الإنكار فتيلًا؛ فأقواله مأثورة، وخطبه مشهورة، والطائف خير شهيد، وسيكون العقاب صارمًا أليمًا، لقد ذل كثير من كبار الثوار والتمسوا الرأفة؛ ولكن عبد الله نديم آثر التشرد والاختفاء على إحناء الرأس، وذلة الطرف، وهو إنما خاض الثورة عن إيمان وعلم.
وقصة اختفاء النديم وحيله التي ضلل به السلطة على الرغم من المكافآت التي رصدتها لمن يأتي به، جديرة بأن توضع في رواية تمثيلية, وستكون رواية غاية في القوة؛ لأنه أجادج التنكر إجادةً يعجز عنها أمهر الممثلين اليوم في بلاد "الخيالة" واسمعه يصف بإيجاز هذا التنكر الذي دام تسع سنين وهو بمصرلم يبرحها, ويمر بين رجال الحكومة، وصنائع الإنجليز دون أن يدركوه، أو يعرفوه[1]: "خرجت من مصر مختفيًا فدرت في البلاد متنكرًا، أدخل كل بلد بلباسٍ مخصوص، وأتكلم في كل قريةٍ بلسان يوافق دعواى التي أدعيها، من قولي إني مغربيّ أو يمنيّ أو مدنيّ أو فيوميّ أو شرقاويّ أو نجديّ، وأصلح لحيتي إصلاحًا يوافق الدعوى أيضًا، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر [1] فتارة اسمه الشيخ يوسف المدني، وتارةً الشيخ محمد الفيومي، وأحيانًا سي الحاد على المغربي, وكان إذا ادعى أنه مغربيّ تكلم بلسانٍ مغربي محكم، أو مدني فكذلك, وادعى مرة أنه عالم يمني, وكان بالقرشية عند أحمد المنشاوي، وأذاعت شهرته حتى بلغت رياض -وهو الرجل الذي يطارده, ويضع له الأرصاد من كل طريق، ويقف المال في سبيل أسره إرضاء لتوفيق- فأرسل سعد زغلول ليسأله عن مثل ورد ذكره في بعض الجرائد لم يفهمه، فقابل سعد علي أنه عالم يمني وفسره له.
وقد استعان على تضليل الحكومة بإشاعة سفره إلى خارج القطر على لسان صديقٍ فرنسيٍّ كان يثق به، ونقلت كل الجرائد خبر سفره هذا, فصدقت الحكومة, وعنفقت رجال الأمن على إهمالهم وتمكينهم له من الهرب، وقد وجد عطفًا زائدًا من كثير من الناس فأعانوه على الاختفاء، وأمدوه وخادمه بالمال، فقد أتى مرةً عيد الأضحى وهو في "برية" يسكن الحقول، لا أحد معه إلّا زوجته، ولا يجد القوت الضروريّ ويأتيه خادمه يشكو البؤس والفاقة، وإذا رجل من أهل البِرِّ والمرؤءة يملأ بيت النديم قمحًا وعسلًا وسمنًا وثيابًا من أطلس, وحرير للزوجة, وللخادم وزوجته. =
نام کتاب : في الأدب الحديث نویسنده : الدسوقي، عمر جلد : 1 صفحه : 317