وهي من شاجيات النوائح، وباقيات المدائح.
وأما الراعي عُبيد فجبل على وصف الإبل فصار بالرعي يُعرف، ونسي ماله من الشرف.
وأما زَيْدُ الخيل فخطيب سجاعة، وفارس شجاعة؛ مشغول بذلك، عما سواه من المسالك.
وأما عامر بن الطفيل فشاعرهم في الفخار، وفي حماية الجار؛ وأوصفهم لكريمة، وأبعثهم لحميد شيمة.
وأما ابن مقبل فقديمٌ شعره، وصليبٌ نجره؛ ومغلي مدحه، ومعلي قدحه.
وأما جرول فخبيث هجاؤه، شريفٌ ثناؤه؛ رفع شعره من الثرى، وحط من الثريا، واعاد بلطافة فكره، ومتانة شعره؛ قبيح الألقاب، فخراً يبقى على الأحقاب، ويتوارث في الأعقاب.
وأما أبو ذؤيبٌ فشديد، أمير الشعر حكيمهُ، شغله فيه التجريبُ حديثه وقديمه؛ وله المرثية النقية السبك، المتينة الحبك؛ بكى فيها بنيه السبعة، ووصف الحمار فطوَّل، وهي التي أولها: أمِنَ المَنونِ وَرَيْبها تتوجّع وأما الأخطلُ فسَعدٌ من سعود بني مروان، صفت لهم مرآة فكره، وظفروا بالبديع من شعره؛ وكان باقعةَ من حاجاه، وصاعقةَ من هاجاه.
وأما الدرامي همام فجوهر كلامه، وأغراض سهامه، إذا افتخر بملك ابن حنظلة، وبدارم في شرف المنزلة. وأطول ما يكون مدى إذا تطاول اختيار جرير عليه بقليله على كثيره، وبصغيره على كبيره؛ فإنه يصادمه حينئذ ببحر ماد، ويقاومه بسيفٍ حاد.
وأما ابن الخطفى فزهدٌ في غزل، وحجر في جدل؛ يسبح أولاً في ماء عذب، ويطمح آخراً في صخر صلب؛ كلب منابحةٍ، وكبش مناطحة؛ لا تفل غرب لسانه مطاولة الكفاح، ولا تُدمى هامته مداومة النطاح؛ جارى السوابق بمطية، وفاخر غالب بعطية؛ وبلغته بلاغته إلى المساواة، وحملته جرأته على المجاراة، والناس فيهما فريقان، وبينهما عند قوم فرقان.
وأما القيسان وطبقتهما فطبقة عشقةٍ وتوقة، استحوذت الصبابة على أفكارهم، واستفرغت دواعي الحب معاني أشعاره؛ فكلهم مشغول بهواه، لا يتعداه إلى سواه.
وأما كُثَيِّر، فحسن النسيب فصيحه، نظيف العتاب مليحه، شجي الأغتراب قريحه؛ جامع إلى ذلك رقائق الظفراء، وجزالة مدح الخلفاء.
وأما الكميت والرماح، ونصيب والطرماح، فشعراء معاصرة، ومناقضات ومفاخرة؛ فنصيب أمدح القوم، والطرماح أهجاهم؛ والرماح أنسبهم نسيباً، والكميت أشبهم تشبيهاً.
وأما بشار بن برد، فأول المحدثين، وآخر المخضرمين؛ وممن لحق الدولتين. عاشق سمع، وشاعر جمع؛ وشعره ينفق عند ربات الحجال، وعند فحول الرجال؛ فهو يلين حتى يستطعف، ويقوى حتى يستنكف؛ وقد طال عمره، وكثر شعره، وطما بحره، ونقب في البلاد ذكره.
وأما ابن ابي حفصة فمن شعراء الدولتين، وممن حظي بالنعمتين، ووصل إلى الغنى بالصلتين، وكان درب المغول، ذرب المقول؛ والد شعراء ومنجب فصحاء.
وأما أبو نواس، فأول الناس في خرم القياس، وذلك أنه ترك السيرة الأولى، ونكب عن الطريقة المثلى؛ وجعل الجد هزلا، والصعب سهلا؛ فهلهل المسرد، وبلبل المنضد، وخلخل المنجد؛ وترك الدعائم، وبنى على الطامي والعائم؛ وصادف الأفهام قد نكلت. وأسباب العربية قد تخلخلت وانحلت؛ والفصاحات الصحيحة قد سئمت وملت؛ فمال الناس إلى ما عرفوه، وعلقت نفوسهم بما ألفوه. فتهادوا شعره، وأغلوا سعره؛ وشغفوا بأسخفه، وكلفوا بأضعفه. وكان ساعده أقوى، وسراجه أضوى، لكنه عرض الأنفق، وأهدى الأوفق؛ وخالف فشهر وعرف، وأغرب فذكر واستظرف. والعوام تختار هذه الأعلاق، وأسواقهم أوسع الأسواق؛ فشعر أبي نواس، نافق عند هذه الأجناس، كاسد عند أنقد الناس. وقد فطن إلى استضعافه، وخاف من استخفافه؛ فاستدر بفصيح طروده، طرفا حد اللسان وحدوده. وهو محدود في كثرة التظاهر، على من غض منه بالحق الظاهر، ليس إلا لخفة روح المجون، وسهولة الكلام الضعيف الملحون؛ على جمهور العوام، لا على خواص الأنام.
وأما صريع فكلامه مرصع، ونظامه مصنع، وجملة شعره صحيحة الأصول، مصنعة الفصول، قليلة الفضول.
وأما العباس بن الأحنف فمعتزلٌ بهواه، وبمعزلٍ عما سهواه؛ دفع نفسه عن المدح والهجاء، ووضعها بين يدي هواه من النسا؛ قد رقق الشغف كلامه، وثقفت قوة الطبع نظامه؛ فله رقة العشاق، وجودة الحذاق.
وأما دعبل، فمدّ يد مقبل؛ اليوم مدح، وغداً قدح؛ يجيد في الطريقتين، ويسيء في الخليقتين؛ وله أشعار في العصبية. وكان شاعر علماء، وعالم شعراء.