وأما ابن هانيء محمد الأندلسي ولادةً، القيرواني وفادةً وإفادة؛ فرعدي الكلام، سردي النظام؛ متين المباني، غير مكين المثاني؛ تجفو بعطنها عن الأوهام، حتى تكون كنقطة النظام؛ إلا أنه إذا ظهرت معانيه، في جزالة مبانيه؛ رمى عن منجنيق؛ إلا أنه إذا ظهرت معانيه، في جزالة مبانيه؛ رمى عن منجنيق، يؤثر في النيق؛ وله غزلٌ قفري، لا عذري؛ لا يقنع فيه بالطيف، ولا يشفع فيه بغير السيف؛ وقد نوه به ملك الزاب، وعظم شأنه بأجزل الثواب؛ وكان سيف دولته في إعلاء منزلته؛ من رجل يستعين على صلاح دنياه، بفساد أخراه، لرداءة عقله، ورقة دينه، وضعف يقينه. ولو عقل لم تضق عليه معاني الشعر، حتى يستعين عليها بالكفر.
وأما القسطلي فشاعرٌ ماهر؛ عالمٌ بما يقول، تشهد له العقول، بأنه المؤخر بالعصر، المقدم في الشعر؛ حاذق بوضع الكلام في مواضعه؛ لا سيما إذا ذكر ما أصابه في الفتنة، وشكا ما داهاه في أيام المحنة. وبالجملة فهو أشعر أهل مغربه، في أبعد الزمان وأقربه.
وأما علي التونسي فشعره المورد العذب، ولفظه اللؤلؤ الرطب، وهو بحتري الغرب؛ يصف الحمام، فيروق الأنام، ويشبب، فيعشق ويحبب؛ ويمدح، فيمنح أكثر ما يمنح.
هذا ما عندي في المتقدمين والمتأخرين، على احتقار المعاصر، واستصغار المجارر، فحاش الله من الأوصاف، بقلة الإنصاف؛ للبعيد والقريب، والعدو والحبيب.
قلت: يا أبا الريان، أكثر الله مثلك في الإخوان، ووقاك محذور الزمان، ومرور الحدثان؛ فلقد سبكت فهما، وحشيت علما.
قال محمد: قلت لأبي الريان في مجلس، عقيب هذا المجلس: يا أبا الريان، لقد رأيت لك نقداً مصيباً، ومرمى عجيباً، ولقد أرغب في أن أنال منه نصيباً.
قال: النقد هبة الموالد وفيه زيادة طارف إلى تالد؛ ولقد رايت علماء بالشعر ورواة له ليس لهم نفاذ في نقده، ولا جودة فهم في ردية وجيدة؛ وكثير ممن لا علم له يفطن إلى غوامضه، وإلى مستقيمه ومتناقضه.
قلت: أنا شديد الرغبة إلى فضلك، في أن تفهمني من ميزك وعقلك؛ ما أستهدي بسراجه، على مستقيم منهاجه؛ فأقف من سرائره على بعض ما وقفت، وأعرف من مفاخره ومعانيه جزءً مما عرفت.
قال: نعم: أول ما عليه تعتمد؛ وإياه تعتقد، أن لبا تستعجل باستحسان ولا باستقباح، ولا باستيراد ولا باستملاح، حتى تنعم النظر، وتستخدم الفكر. وأعلم أن العجلة في كل شيء موطيء زلوق، ومركب زهوق؛ فإن من الشعر ما يملأ لفظه المسامع، ويرد على السامع منه فقاقع؛ فلا يرعك شماخة مبناه، وانظر إلى ما في سكناه من معناه؛ فإن كان في البيت ساكن، فتلك المحاسن؛ وإن كان خالياً، فأعدده جسماً بالياً. وكذلك إذا سمعت ألفاظاً مستعملة، وكلمات مبتذلة، فلا تعجل باستضعافها، حتى ترى ما في أضعافها؛ فكم من معنى عجيب، في لفظ غريب، والمعاني هي الأرواح، والألفاظ هي الأشباح؛ فإن حسنا فذلك الحظ الممدوح، وإن قبح أحدهما فلا يكن الروح.
قال: وتحفظ عن شيئين: أحدهما أن يحملك إجلال القديم المذكور على العجلة باستحسان ما تستمع له؛ والثاني أن يحملك إصغارك المعاصِر المشهود على التهاون بما أنشدت له؛ فإن ذلك جورٌ في الأحكام، وظلم مع الحكام؛ حتى تمحص قولهما، فحينئذ تحكم لهما أو عليهما. وهذا باب في اغتلافه استصعاب، وفي صرف العامة وبعض الخاصة عنه إتعاب. وقد وصف تعالى في كتابه الصادق تشبث القلوب بسيرة القديم، ونفارها من المحدث الجديد، فقال حاكياً لقولهم:) إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ (. وقال:) لن نعبد إلا ما وجدنا عليه آباءنا (. وقد قلت أنت:
أُغْرِي الناسُ بامتداح القديمِ ... وبذمِّ الجديدِ غَير ذَميمِ
ليس إلا لأنهم حَسَدوا الحيّ ورَقْوا على العِظام الرَّميم وقلتَ في هذا المعنى:
قُل لمن لا يَرى المُعاصر شَيئاً ... ويرى للأوائل التقديما
إنَّ ذاك القديمَ كان جديداً ... وسَيغدو هذا الجديدُ قديمَا
فلا يرعك أن تجرى على منهاج الحق، في جميع الخَلق؛ فيه قامت السمواتُ والأرض، وبه أُحكم الإبرام والنقض، وسأمثل لك في ذلك مثالاً، وأملأ أسماعك مقالاً، وفهمك عدلاً واعتدالا: