هذا بيت قد جمعَ المُطابَقةَ والترصيعَ والتشبيه.
وقال بَشامةُ النّهشَلي وتُروَى لغيره:
بيضٌ مفارِقُنا تَغْلي مراجِلُنا ... نأسُو بأموالِنا آثارَ أيدينا
رأيتُ بخطّ الشيخ أبي زكريا التبريزي كتاباً قد خرّجَ فيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب ما يُوفي على مِئَتي وجْهٍ في قوله بيضٌ مفارِقُنا حسْبُ، وقد شيّد بناء تلك المعاني بأشعار عربية وألفاظ مقبولة. وقال آخر:
طويلُ النِّجادِ، رفيعُ العِمادِ ... كثيرُ الرّمادِ، والليلُ قُرّ
وقال الحارثي:
ألمّتْ فحيّتْ ثمّ قامَت فودَّعتْ ... فلما تولّتْ كادتِ النفسُ تزْهَقُ
والترصيعُ في الشِّعرِ أكثرُ من عدَد القطْرِ. ومنه:
باب الترديد
وهو أن يُعَلِّقَ الشاعرُ لفظةً في البيت بمعنى ثم يردِّدُها فيه بعينِها ويعلِّقُها بمعنىً آخر. وأجمع أهل النقدِ أنّ أبا حيّة النُّمَيْري سبقَ الى هذا الإحسان جميعَ مَنْ تقدَّمَه وتأخّر عنه بقوله:
ألا حَيِّ من أجلِ الحبيبِ المغانيا ... لبِسْنَ البِلى مما لبِسن اللّيالِيا
إذا ما تقاضَى المرْءَ يومٌ وليلةٌ ... تقاضاهُ شيءٌ لا يمَلُ التقاضِيا
ابتدأ في المِصراع الأول فأحْسنَ الابتداءَ وردّدَ في المصراع الثاني فأحسنَ الترديد. وقال أبو تمام الطائي: لا أعرف أحداً أحسنَ صنعةً في الترديد من قوْلِ زُهير وهو:
مَنْ يلْقَ يوماً على عِلاّتِه هرِماً ... يَلْقَ السّماحةَ منهُ والنّدَى خُلُقا
ويُروى: إن تلقَ ... وتلقَ السّماحةَ. قال الأصمعي: هذا أمدحُ بيتٍ قالتْهُ العرَب. وقال أبو علي الحاتميّ: لقد أحسنَ أبو نواس في الترديد بقوله:
صفراءُ لا تنزِل الأحزانُ ساحتَها ... لو مسّها حجَرٌ مسّتْهُ سرّاءُ
وقال أيضاً:
ظنّ بي مَنْ قد كلِفْتُ به ... فهوَ يجْفوني على الظّنَنِ
قال الحاتمي: ولقد أجاد عليُّ بنُ جبَلَة مع تأخُّرِ زمانِه في صِفة فرس حيث يقول:
مُضْطَربٌ يرْتَجّ من أقطارِهِ ... كالماءِ جالَتْ فيه ريحٌ فاضطَرَبْ
إذا تظنّيْنا به صدّقَنا ... وإنْ تظَنَّى فوْتَهُ العيْرُ كذَبْ
والترديد في أشعار المتأخرينَ كثيرٌ ولكن لم نصْرِفْ إليه هِمّة، ففيما أتيْنا به من المثال كفاية. ومنها:
بابُ المُقابلة
قال عليُّ بن الحُسَيْن القُرَشيّ: سألتُ جعفر بن قُدامة الكاتب، وكان من جهابِذَةِ الشعر، عن المُقابلة فقال: سألت أبي عنها فقال: هو أن يضع الشاعر معانيَ يعتمدُ التوفيق بين بعضِها وبعض، أو المخالفة، فيأتي بالموافق مع ما يوافِقُه، وفي المخالفِ بما يخالِفُه على الصِّحّة، أو يشترطَ شروطاً، ويعدِدَ أحوالاً في أحدِ المعنَيَيْن فيجب أن يأتي فيما يوافقُه بمثل الذي شرَط فيما يُخالفُه بأضدادِ ذلك. قال: فقُلتُ له: فأنشدني أحسنَ ما قيلَ فيه فقال: لا أعرفُ أحسنَ من قول الأول:
أيا عجَباً كيفَ اتّفقْنا فناصِحٌ ... وفيٌّ ومَطْويٌّ على الغِلِّ غادِرُ
فجعل بإزاء ناصح مطوياً على الغِلِّ، وبإزاء وفيّ غادراً. قال: وقول الطِّرِمّاح بن حَكيم الطائي في ذلك حسن أيضاً، وهو:
أسَرْناهُمْ وأنْعَمْنا عليهمْ ... وأسقَيْنا دِماءهُم التُّرابا
فَما صبَروا لبأْسٍ عند حرْبٍ ... ولا أدّوا بحُسنِ يَدٍ ثَوابا
يقولُ: لمّا سَقَيْنا التراب دِماءَهُم لم يكن لهم صبْرٌ على ما نزل بهم منا لفشَلِهم وضعْفِ نُفوسِهم، ولمّا أنعمْنا عليهم وأحسنّا إليهم لم يجازوا بالثناء علينا، فجعل بإزاء أن سَقَوا دماءَهم التُرابَ وقاتلوهم، أن يصبروا، وبإزاء أن أنعَموا عليهم، أن يُثْنوا، وقال هذه المقابلة. وقال عليّ بن هارون: كان يحيى بن علي يزعُم أن أحسن ما قيل في المقابلة قولُ النابغة:
فتىً تمّ فيه ما يسُرُّ صديقَهُ ... على أنّ فيه ما يَسوءُ المُعادِيا
فجعل بإزاء السرورِ الإساءةَ وبإزاء الصديق المعادي. وهذه نُغْبَة في هذا الباب كافية. ومنها:
باب الاستثناء