كأنّ عُيونَ الوحشِ حول قِبابِنا ... وأرْحُلِنا الجَزْعُ الذي لم يُثَقَّبِ
وقوله:
كأنّ قلوبَ الطّيْرِ رَطْباً ويابساً ... لدى وَكرِها العُنّابُ والحشَفُ البالي
وقوله:
سَمَوْتُ إليها بعدَ ما نامَ أهلُها ... سُموَّ حَبابِ الماء حالاً على حالِ
قال: فالتفَت الرشيدُ الى يحيى وقال: هذه واحدة، فقد نصّ على امرئ القيس أنه أبرعُ الناس تشبيهاً، قال: فقال يحيى: هي لك يا أميرَ المؤمنين، ثم قال الرشيد: فما أبْرَعُ تشبيهاتِه عندَك؟ قلت: قوله في صفة فرس:
كأنّ تشَوُّفَهُ في الضُحى ... تشوُّفُ أزرقَ ذي مِخْلبِ
إذا بُزَّ عنه جِلالٌ له ... تقولُ سَليبٌ ولم يُسلَبِ
قال الرشيد: هذا حسَن، وأحسنُ منه قوله:
فرُحْنا بِكابْنِ الماءِ يُجنَبُ وسْطَنا ... تصَوَّبُ فيه العيْنُ طوراً وتَرْتَقي
فقال جعفر: هو التحكيم يا أميرَ المؤمنين، قال: كيف؟ قال: ليَذْكُرْ أميرُ المؤمنين ما كان وقع اختيارُه عليه ونحن نذكر ما اخترناه ويكونُ الحُكْمُ واقعاً من بعد، فقال الرّشيد: أغْرَضْتَ، قال الأصمعي: فاستحسنتُها منه، يقال: أغْرَضَ الرجلُ إذا قارب الصوابَ. ثم قال الرشيد: ليبدأ يحيى، فقال يحيى: أحسنُ الناس تشبيهاً النابغةُ في قوله:
نظَرَتْ إليكَ بحاجةٍ لم تَقْضِها ... نظَرَ المريضِ الى وجوهِ العُوَّدِ
وقوله:
فإنّك كالليلِ الذي هو مُدرِكي ... وإنْ خِلتُ أنّ المُنْتَأى عنكَ واسعُ
وقوله:
مِنْ وحْش وَجْرَةَ مَوْشيٌّ أكارِعُهُ ... طاوي المَصير كسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ
قال الأصمعي: فقلتُ: أما تشبيهُ مرَضِ العين فحسَنٌ، إلا أنه هجّنَهُ بذكرِ العِلّة وتَشبيهِ المرأة بالعليل، وأحسنُ منه قولُ عَديّ بن الرِّقاع:
وسْنانُ أقصَدهُ النُّعاسُ فرنّقَتْ ... في عينِه سِنةٌ وليس بنائِمِ
وأما تشبيه الإدراك بالليل والنهار فيما يُدركانِهِ فقد كان من سبيله أن يأتي بما ليس له قسيمٌ حتى يأتيَ بمعنىً ينفردُ به، ولو شاءَ قائِلٌ أن يقول: إنّ قولَ النَّمِريّ في هذا المعنى أحسن، لوجدَ مساغاً، وهو:
ولو كنتُ بالعَنْقاءِ أو بأُسومِها ... لَخِلتُكَ إلا أن تصُدَّ تَراني
وأما قولُه: كسَيْفِ الصيقل الفرِد، فالطِّرمّاح أحقُّ بهذا المعنى منه، لأنه أخذَه فجوّدَه وزاد عليه، وإنْ كان النابغةُ افترَعَه، قال الطّرمّاح:
يبدو وتُضمِرُهُ البلادُ كأنّه ... سيفٌ على شرفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
فقد جمع في هذا البيت استعارةً لطيفةً بقوله: تُضمِرُهُ، وشبّه شيئين بشيئين، بقولِه: يبدو ويَخْفى، ويُسَلّ ويُغْمَد، وهو طِباقٌ حسَن، وفيه حسْن التفسير وصحّة المُقابلة. قال الأصمعي: فاسْتَبْشرَ الرشيدُ حتى برَقَتْ أساريرُ وجهه، فخِلْتُ برْقاً ومضَ منها، وقال ليحيى: فضَلْتُك وربِّ الكعبة، وامتقع لوْن يحيى فكأنّ المَلَّ ذُرَّ عليه فقال الفضلُ: لا تعجَلْ يا أمير المؤمنين حتى يمُرّ ما قلته بسَمْعِه. فقال: قل، قال الفضل: أحسنُ الناس عندي تشبيهاً طرَفَةُ بقوله:
يشقُّ حَبابَ الماءِ حيْزومُها بها ... كما قسَم التُّرْبَ المُفايلُ باليدِ
المفايلُ الذي يجمع الترابَ ويقسمه نصفين أو ثلاثاً ويجعلُ فيه خبيئاً، والفَيالُ الاسم بغير همز. فشبّه شَقَّ السفينة الماءَ بصدرِها بشَقِّهم التُّرابَ، وقوله:
لعَمْرُكَ إنّ الموتَ، ما أخطأ الفتى، ... لكالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنْياهُ باليَدِ
وقوله:
ووَجهٍ كأنّ الشمسَ ألقَتْ رداءَها ... عليه، نقيَّ اللونِ لمْ يتخدّدِ