فباكَرَهفمْ عندَ الشّروقِ كتائِبٌ ... كأرْكانِ سَلْمى سيْرُها مُتواتِرُ
وقال الحَكَميّ يصفُ سفينةً:
فكأنّها والماءُ ينطحُ صدرَها ... والخَيْزُرانةُ في يدِ المَلاّحِ
جَوْنٌ من العِقْبانِ تبْتَدِرُ الدُجَى ... تهْوي بصوتٍواصطفاقِ جَناحِ
وهذا بابٌ وسيعُ الأرجاء، بعيدُ الانتهاءِ، كالبحر لا تُحصى أمواجُه، ولا يُسْتَقصى منهاجُه، وفيما أوردناه فضلٌ على الكفاية. ومنها: باب الحشو السديد في المعنى المفيد
قال أبو الشّيص الخُزاعي:
إنّ الثمانين، وبُلِّغْتَها، ... قد أحوَجَتْ سمْعي الى تُرْجُمانِ
قولُه: وبُلِّغْتَها، حشْو سَديد وقد أفادَتْ من الدّعاء معنى جَيداً. وأنشد اليزيديّ:
فمَنْ ليَ بالعيْنِ التي كنتَ مرّةً ... إليّ بها، نفْسي فِداؤكَ، تنظُرُ
قولُه: نفسي فداؤكَ، كقولهِ: وبُلِّغْتَها، في الدُعاء. وقال أبو الوليد عبد الملك بن عبد الرحمن الحارثي:
فلَوْ بِكَ ما بي، لا يكُنْ بكَ، لاغتدَى ... وراحَ إليكَ البِرُّ بي والتّقَرُّبُ
قولُه: لا يكُنْ بكَ حشْوٌ حسن. وأنشد أبو عمرو بن العلاء الجاهلي:
وعَوْدٌ، قليلُ الذَّنْبِ، عاوَدْتُ ضرْبَهُ ... إذا هاج شوقي من معاهدِها ذِكْرُ
وقلتُ له ذَلفاءُ، ويحَك، سبّبَتْ ... لك الضربَ فاصْبرْ إنّ عادتَك الصّبْرُ
أخذ ابنُ المعتزّ هذا المعنى فقال:
وخَيْلٍ طواها القَوْدُ حتّى كأنّها ... أنابيبُ سُمْرٌ من قَنا الخَطِّ ذُبَّلُ
صَبَبْنا عليها، ظالمينَ، سِياطَنا ... فطارَتْ بها أيدٍ سِراعٌ وأرْجُلُ
قوله: ظالمين مثل قوله: قليل الذنب فهذا هو الحشْو السّديد، في اللفظ المُفيد. أما إذا كان الحشو كقولِ أبي العيال الهُذَلي:
ذكرتُ أخي فعاودَني ... صُداعُ الرأسِ والوَصَبُ
فالصداعُ لا يكون إلا في الرأس، وذكرُ الرأس حشْوٌ غيرُ سديد، ومثله قول ديك الجن:
فتنفّسَتْ في البيت إذ مُزِجَتْ ... بالماءِ واسْتلّتْ سَنا اللهَبِ
كتنفُّسِ الرَيْحانِ خالَطَهُ ... من ورْد جُورٍ ناضِرُ الشُّعَبِ
فذِكْرُهُ المزج يغني، وذِكْرُهُ الماءَ زيادةٌ لا يحتاج إليها، ولقد قصّر عن قول أبي نواس:
سَلّوا قِناع الطينِ عن رمَقٍ ... حيّ الحياة مُشارِفِ الحتْفِ
فتنفّسَتْ في البيت إذ مُزجَتْ ... كتنفُّسِ الرّيْحانِ في الأنْفِ
وهذا مثالٌ في هذا الباب كافٍ. ومنها:
باب المتابعة
المُتابعة في الكلام المنثور الشعر المنظوم أن يأتي المتكلمُ بالمعاني التي لا يجوز تقديمُ بعضها على بعض، لأن المعاني فيها مُتتالية، فالأولُ يتلوه الثاني والثاني يعقُبُه الثالث، الى أن ينتهي المتكلمُ الى غاية مُرادِه. ولا يجوز تقديمُ الثاني على الأول، ولا الثالث على الثاني، مثالُ ذلك قولُه تعالى: (هو الذي خلقَكُم من تُرابٍ ثمّ من نُطْفَةٍ ثمّ من علَقَة، ثمّ يُخرجُكُم طِفلاً ثم لتَبْلُغوا أشُدَّكُم ثمّ لتكونوا شُيوخاً) . وقال تبارك وتعالى: (فناداها من تحتِها ألاّ تحزَني قد جعلَ ربُّكِ تحتَكِ سَرِيّاً. وهُزّي إليك بجِذْعِ النّخلةِ تُساقِط عليكِ رُطَباً جَنِيّاً. فكُلي واشْرَبي وقَرّي عيْناً) . فهذا من أحسنِ صِناعةِ الكلامِ في هذا الباب فسُبْحانَ المتكلم به وتعالى عُلُوّاً كبيراً. وأنشد الأصمعي:
لكنّها خُلّةٌ قد سِيطَ من دمِها ... فجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
الفجْعُ: الغَدْرُ، والولْعُ: الكذِب. وقولهم: الدنيا لا تؤمَن فجائعُه، أي غَدراتُها، ووجهُ المتابعةِ أنّ الغدرَ إذا وقعَ تبيّن الكذِبُ، وإذا وقع التبديلُ ظهر الخلافُ. وقال زهير:
يؤخَّرْ، فَيوضَعْ في كتابٍ، فيُدَّخَرْ ... ليومِ حسابٍ، أو يعجَّلْ فيُنْقَمِ
وقال الشّنْفَرى:
بعَيْنَيّ ما أمسَتْ، فباتَتْ، فأصبحَتْ ... فقضّتْ أموراً، فاستقلّتْ، فولَّتِ
وقال أرْطاةُ بن سُهَيّة:
أكلتفمْ دَماً وشَرِبْنا دَماً ... فلم نُرْوَ منهُ ولم تَشْبَعوا
وقال ابنُ سُليمان الكِلابي: