تَراخَى به حُبُّ الضّحاءِ وقد رأى ... سماوةَ قشراء الوظيفَيْنِ عَوْهَقِ
فقال زهير:
تحِنُّ الى مِثلِ الحَبابيرِ جُثَّمٍ ... لدَى مُنْهَجٍ من قَيْضِها المُتَفَلِّقِ
ثم قال: أجِزْ يا لُكَع، فقال:
تحطّمَ عنها قيْضُها عن خَراطِمٍ ... وعن حدَقٍ كالنَّبْخِ لم يتَفَلَّقِ
فأخذ زُهير بيد كعْب وقال له: قدْ أذِنْتُ لك في الشِعر. ومنها: باب السّرقة
والسَّرقة في الأشعارِ تنقسمُ الى قِسمين: محمود ومذموم. وكانت فحول شعراء العرب تستقبحُ سَرِقَةَ الشعرِ كما قال طَرَفة:
ولا أغيرُ على الأشعارِ أسْرِقُها ... عنها غَنِيتُ وشرُّ الناسِ من سَرَقا
ومع هذا فلهم سَرِقاتٌ مُستَقْبَحةٌ، وإغاراتٌ بزنادِ الإكثارِ مُستَقْدَحة.
فأما المحمود من السَرِقة فهو عشرةُ وجوه: الأول: استيفاءُ اللفظِ الطويل في الموجز القليل. قال طرفة:
أرى قبرَ نحّامٍ بخيلٍ بمالِه ... كقَبْرِ غَويٍّ في البِطالةِ مُفْسِدِ
اختصَرَهُ ابنُ الزِّبَعْرى فقال:
والعَطِيّاتُ خِساسٌ بيْنَنا ... وسواءٌ قبرُ مُثْرٍ ومُقِلّ
فشغَل صدرَ البيتِ بمعنىً وجاء ببيتِ طَرَفة في عَجز بيت أقصرَ منه بمعنىً لائح، ولفظٍ واضح.
الثاني: نقْلُ الرَّذْل الى الرصينِ الجَزْل. قال أعرابي يتمنى موْتَ زوْجَته:
ألا إنّ موتَ العاميّةِ لو قَضى ... بهِ الدّهرُ لابن الوائليِّ حياةُ
المعنى لطيفٌ واللفظُ ضعيفٌ، أخذَه أخو الحارث بن حِلِّزة فقال:
لا تكُنْ مُحتقِراً شأنَ امرئٍ ... رُبما كان من الشأنِ شُؤون
ربما قرّتْ عُيونٌ بشَجاً ... مُرْمضٍ قد سخِنَتْ منه عُيونُ
الثالث: نقْل ما قبُحَ مبناهُ دون معناهُ الى ما حَسُن مبناهُ ومعناه. قال الحكميّ:
بُحَّ صوْتُ المالِ ممّا ... منكَ يشكو ويَصيحُ
معناه صحيحٌ ولفظُهُ قبيحٌ، أخذَه سَلْمٌ فقال:
تظلَّمَ المالُ والأعداءُ من يدِه ... لا زالَ للمالِ والأعداءِ ظَلاّما
فجمعَ بين تظلُّمَيْن كريمين، ودعا للممدوحِ بدوامِ ظُلمِه للمالِ والأعداء، وجوّدَ الصَنعةَ في لفظِه وأخذِه.
الرابع: عكْسُ ما يصير بالعكس ثناءً بعد أن كان هِجاء.
ما شئت من مالٍ حمىً ... يأوي إلى عِرْضٍ مُباحِ
فعكَسهُ القائلُ فقال:
هوَ المرءُ أمّا مالُه فمُحلّلٌ ... لِعافٍ وأما عِرْضُهُ فمحرَّمُ
الخامس: استخراج معنىً من معنىً احتذى عليه وإن فارقَ ما قصَدَ به إليه. قال الحَكَميّ في الخَمْر:
لا ينزِلُ الليلُ حيثُ حلّتْ ... فدَهْرُ شُرّابِها نهارُ
احتذَى عليه البحتري، وفارقَ مقصدَ الحكمي فجعلَهُ في محبوبةٍ فقال:
غابَ دُجاها وأيُّ ليلٍ ... يدجو عليْنا وأنتِ بدرُ!؟
السادس: توليدُ كَلامٍ من كلام لفظُهما مفترِقٌ ومعناهما متّفِق، وهو ممّا يدُل على فطنة الشاعر، أنشد الأصمعي لبعضهم:
غُلامُ وغىً تقحَّمها فأوْدَى ... وقد طحَنَتْهُ مِرداةٌ طحونُ
فإنّ على الفَتى الإقدامَ فيها ... وليسَ عليه ما جَنَتِ المَنونُ
أخذَه أبو تمام فقال:
لأمْرٍ عليهم أن تتمّ صدُورُه ... وليس عليهم أن تتِمَّ عواقِبُهْ
المعنى متفق واللفظُ مفترقٌ، وهذا من أحسَنِ وجوهِ السّرِقات.
السابع: توليدُ معانٍ مُستحسناتٍ في ألفاظٍ مختلفاتٍ، وهذا قليلٌ في الأشعارِ، وكان من أجدَرِ ما كَدّ الشاعرُ فطنتَهُ فيه، إلا أنّه صعبٌ. قال الشاعر:
كأنّ كؤوسَ الشَّرْبِ والليلُ مُظلِمٌ ... وجوهُ عَذارى في ملاحفَ سودِ
اشتقّ ابنُ المعتزّ منه قوله:
وأرى الثُريّا في السّماءِ كأنّها ... قدَمٌ تبدّتْ من ثيابِ حِدادِ
الثامن: المساواةُ بين المسروق منه والسارِق، بزيادة ألحَقَتِ المسبوقَ بالسابِقِ. قال الديك:
مُشَعْشَعةٌ من كفِّ ظبيٍ كأنّما ... تناولَها من خَدِّه فأدارَها
أخذَه ابنُ المعتز فقال:
كأنّ سُلافَ الخَمرِ من ماءِ خدّه ... وعنقودَها من شَعْرِهِ الجَعْدِ يُقْطَفُ