لم يُقنعْهُ قُبحُ هذا الأخذ لفظاً ومعنى حتى أتى فيه بما لا حاجةَ له إليه، لأنّ حُسْنَ أعيُنِ الظِّباءِ لا تعَلُّقَ له بظلِ السِّدرِ، وليس في ذلك ما ليس له في غيره. والكندي لمّا وصفَ عينَها بعينِ الجازئة، وهي الظبيةُ التي قد اجتزأَتْ بالرَّطْب عن الماء ذكرَ أنها حوراءُ ثم وصَفها بأنها حانيةٌ على طفل، وفي حُنُوّها على ولدها اكتسابُ طرفِها بتروّعها عليهِ وخوفِها مما ينالُه معنى لا يوجَدُ عند سكونِها وأمنه، وقد سَرَقَ المُسيَّبُ شيئاً وتركَ ما هو من تمام الكلام، فاعرِفْهُ.
السابع: رُجحانُ كلامِ المأخوذِ عنه على كلام الآخذِ منه. قال مُسْلِم:
أما الهجاءُ فدَقّ عِرْضُكَ دونَه ... والمدحُ عنك كما علِمتَ جَليلُ
فاذهبْ فأنتَ طليقُ عِرضِك إنّه ... عِرْضٌ عَزَزْتَ به وأنت ذَليلُ
أخذه الطائي فقال:
قال لي النّاصحونَ وهو مقالٌ ... ذمُّ من كان جاهِلاً إطراءُ
صَدَقوا، في الهجاءِ رِفْعَةُ أقوا ... مِ طَغامٍ فليسَ عندي هِجاءُ
وبين الكلامين بوْنٌ بعيدٌ لا تحتاجُ الى إيضاحِه لارتفاعِ الشكّ في بيانه.
الثامن: نقلُ العَذْبِ من القوافي الى المُستكرهِ الجافي. قال المتلمّس:
فأطرَقَ إطراقَ الشجاعِ ولو يرَى ... مَساغاً لِنابَيْهِ الشُّجاعُ لصَمّما
أخذَه عمرو بنُ شأس بجملته وختَمَه بقافيةٍ مُستكرهةٍ، فقال:
فأطرقَ إطراقَ الشُجاعِ ولو يَرى ... مَساغاً لنابَيْهِ الشُجاعُ لقد أزَمّْ
أزمّ: اشتدّ وعضّ، وهي لفظة غير عَذْبة.
التاسع: نقلُ ما يعودُ على البحث والانتقاد الى تقصير ظاهرٍ أو فساد. قال أبو العتاهية:
إنّي أعوذُ من التي شَعَفَتْ ... مني الفؤادَ بآيةِ الكُرْسي
وآيةُ الكُرسي إنما تهرُبُ منها الشياطين ويُحتَرَس بها من الغِيلان فهل التي شعَفَتْ فؤادَه كانت من هذا القبيل؟ وقال الأعشى:
فرَمَيْتُ غَفْلَةَ عينهِ عنْ شاتِه ... فأصَبْتُ حبّةَ قلبِه وطِحالَها
أما ذِكرُ القلب والفؤاد فلا ريبَ أنه يتردد كثيراً في الشعر عند ذِكر الهَوى والمحبّةِ والشوقِ، وما يجدُه المغْرَمُ في هذه الأعضاء من الألم والحرارة والكَرب. وأما الطّحالُ فما رأينا أحداً استعملَ ذِكرَه في هذه الأحوال، إذ لا صُنْعَ له فيها ولا هو ممّا يُنسبُ الى حركة في حزن أو عِشق، ولا الى سُكون عندَ فرَجٍ أو ظَفَرٍ، ففسادُ ذِكر الطحال ظاهر في هذه الحال. وقال الآخر:
لمّا تخايلْتُ الحُمولَ حسِبْتُها ... دَوْماً بأيْلَةَ ناعماً مَكْموما
ذكرَ أن الدَّوْمَ، وهو شجَرُ المُقلِ، مكمومٌ وإنما تُكمّم النخلُ. وفي هذا الباب للعرب وغيرهم أشعارٌ لا يُحيطُ بجملتها باحثٌ ولا مُختار.
العاشر: أخذُ اللفظِ المُدَّعى هو ومعناه معاً. وهو أقبح وجوهِ السّرِقات وأشنعُها وأدناها منزلةً وأوضعها فمن ذلك قول الكنْديّ:
وعنْسٍ كألواحِ الإرانِ نسَأتُها ... على لاحِبٍ كالبُردِ ذي الحِبَراتِ
أخذَه طَرَفة - الذي قال: وشَرُّ الناس منْ سَرَقا - فقال:
أمونٍ كألواحِ الإرانِ نسأتُها ... على لاحِبٍ كأنه ظَهرُ بُرجُدِ
وقال الحطيئة:
إذا حُدِّثَتْ أنّ الذي بيَ قاتلي ... من الحُبِّ قالتْ ثابتٌ ويَزيدُ
أخذَه جميل فقال:
إذا قلتُ ما بي يا بُثينةُ قاتلي ... من الحُبِّ، قالَتْ ثابتٌ ويزيدُ
وقال مُسلم بن الوليد:
يقولُ صَحْبي وقد جدّوا على عجَلٍ ... والخيلُ تسْتَنُّ بالرُّكْبانِ في اللُجُمِ
أمَطلِعَ الشمسِ تبغي أن تؤمَّ بنا ... فقلتُ كلاّ ولكنْ مطلِعَ الكَرَمِ
أخذهُ أبو تمام فقال:
يقولُ في قُومسٍ صحْبي وقد أخذَتْ ... منّا السُّرى وخُطى المَهْريّةِ القُودِ
أمطلِعَ الشمسِ تبغي أن تؤمّ بنا ... فقلتُ كلا ولكن مطلِعَ الجودِ