وإنما أراد معاويةُ أن يحرِّكَ عُروةَ بذلك، فقال عُروةُ: نعم، وأروي قولَها: ألا أبلِغْ بني عمي رسولا ... الأبيات، فخجِلَ معاويةُ حتى عرِقَ جبينُه لذِكر غَدْرةِ أبيه والنارِ التي أوقِدَتْ له على أبي قُبَيْس.
ولما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدّت العربُ، كان الحُطيئة أكبرَ دواعيهم الى الرِّدّة بقوله:
أطعنا رسولَ اللهِ ما كان بيننا ... فوا عَجَباً ما بالُ مُلْكِ أبي بكرِ
أيورِثُها بكراً إذا مات بعدَهُ ... فتِلكَ لعمْرُ اللهِ قاصمةُ الظّهرِ
فانتَخَتْ العربُ لقول الحُطيئة وأنِفَتْ من طاعةِ أبي بكر.
ومن تأثير الشعر أن ابن هشام بنَ الوليد كان قد ولّى عبدَ الرحمن بنَ حزْم الأنصاري المدينة، فقال الأحْوَص:
لا تَرْحَمَنّ لحَزْميٍّ مررْتَ به ... يوماً ولو أُلقِيَ الحَزْميُّ في النارِ
الناخِسينَ بمروانٍ بذي خُشُبٍ ... والداخلينَ على عثمانَ في الدّارِ
فلمّا سمعَ هشامٌ شِعْرَ الأحوَص عزَل عبد الرحمن عن المدينة وأمر بقبض ضِياعِهم وأموالهم. فلما ولِيَ المنصورُ دخل عليه بعضُ أولادِ بني حَزْم فقال: يا أمير المؤمنين لنا ستّون سنةً ما أخذْنا عَطاءً ولا وصلنا الى شيء من أموالنا لقول الأحوصِ وأنشدَه البيتَيْن فتأثرَ لهُما وقال: إذاً واللهِ تحْمَدُ العاقبةَ عندَ بني هاشمٍ، اكتُبوا بردِّ ضياعهم والقبض على ضِياع بني أميّةَ وتسليمها إليهم ليستَغلّوها ستينَ سنة، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار صِلة.
ودخل سُدَيْفٌ على السّفّاح وعندَه بنو أميّة على مراتِبِهم فأنشده:
لا يغُرّنْكَ ما ترى من أناسٍ ... إنّ تحْت الضُلوعِ داءً دَويّا
فضَعِ السيفَ وارفعِ السّوطَ حتى ... لا ترى فوقَ ظهرِها أُمَويّا
وأنشدَه سُدَيف أيضاً:
أصبحَ المُلكُ ثابتَ الآساسِ ... بالبَهاليلِ من بَني العبّاسِ
حتى انتهى الى قوله:
واذكُروا مصْرَعَ الحُسين وزَيدٍ ... وقتيلٍ بجانبِ المِهْراسِ
تأثّر السّفاح بذلك تأثّراً بانَ في صفَحاتِ وجهه وكان سَبباً لقتل بني أمية، مع ما كان في النفس منهم:
والقوْلُ يفعلُ ما لا تفعَلُ الإبَرُ
وأمر بضربِ رِقابِهم عن آخرهم، وقصّتُهم مشهورة.
وحدّث المدائنيّ أنّ المنصورَ قال: صحِبْتُ رجلاً ضريراً الى الشام وكان يريد مروانَ بن محمّد في شعرٍ قاله فيه. قال المنصور: فسألته أن يُنشدني الشّعرَ فامتنع وقال: لا يسمعُهُ إلا مَنْ قِيلَ فيه، فلم أزَل أُلاطِفُه وأؤانسهُ الى أن أنشدَنيه، فمنه:
ليتَ شِعْري أفاحَ رائِحةُ المِس ... كِ وما إنْ أخالُ بالخَيْفِ إنْسي
حينَ غابَتْ بنو أميّةَ عنهُ ... والبَهاليلُ من بني عبدِ شمْسِ
خُطَباءٌ على المنابرِ فُرسا ... نٌ عليها، وقالَةٌ غيرُ خُرْسِ
لا يُعابون قائِلينَ وإنْ قا ... لوا أصابوا ولمْ يقولوا بلَبْسِ
بحُلومٍ إذا الحُلومُ استُخِفّتْ ... ووجوهٍ مثل الدّنانيرِ مُلْسِ
قال المنصور: فواللهِ ما فرَغَ من شعرهِ حتى ظننْتُ أنّ العمى قد أدرَكَني، ولقد والله حسدتُ مروانَ على الشعر أكثر من حسَدي له على الخِلافة. فلما أفضى الأمرُ إليّ خرجتُ حاجّاً سنَةَ إحدى وأربعين ومائةٍ فنزلتُ عن الجَمّازة في جبَليْ زَرودٍ أمشي في الرمل لنذْرٍ كان عليّ، وإذا أنا بالضرير، فأومأْتُ الي من كان معي فتأخّروا، ودنَوتُ منه فأخذتُ بيده وسلّمُ عليه، فقال: منْ أنت؟ جُعِلتُ فِداك، فما أُثْبِتُك معرفةً، قلت: أنا رفيقُك الى الشام في أيام بني أميةَ وأنتَ متوجهٌ الى مروان بن محمد الجَعْدي. فسلّم عليّ وتنفّس الصُّعداء وأنشد:
آمتْ نساءُ بني أميةَ منهمُ ... وبناتُهُم بمَضيعَةٍ أيْتامُ
نامتْ جُدودُهُمُ وأُسْقِطَ نجمُهمْ ... والنّجمُ يسقطُ والجدودُ تنامُ
خلَتِ المنابِرُ والأسرّةُ منهمُ ... فعليهمُ حتى المماتِ سَلامُ