وقيل: دخل أبو علي المَنْقَريُّ على المأمونِ وكان متّكئاً على فُرُشِه، قال له المأمون: بلغَني أنكَ أمِّيٌّ، وأنك لا تقيمُ الشِّعرَ، وأنّكَ تَلْحَنُ، فقال: يا أمير المؤمنين، أمّا اللّحنُ فربما سبَقَ لساني بشيء منه، وأما الأمّيّةُ وكسرُ الشعرِ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتبُ ولا يُقيمُ الشِّعرَ. فاستوى المأمون جالساً وقد ظهرَ الغضبُ على وجهه وقال: ويلَك. سألتُك عن ثلاثةِ عيوبٍ فيكَ فزدْتَني رابعاً؛ وهو جهلُك وحمقُك، يا جاهل! إنّ ذلك كان في النّبي صلى الله عليه وسلم فضيلةً، وهو فيكَ وفي أمثالِك نقيصةٌ ورذيلةٌ، وإنما مُنِع النبي من ذلك لنفي الظِّنةِ عنهُ، لا لِعيبٍ في الشِّعر والكتابةِ، ولا لنَقْصٍ لحِقَهما. فلما سمِعَ المنقريُّ ذلك قال: صدقتَ يا أميرَ المؤمنين، رُبَّ ظنٍّ عثَرَ على وهْنٍ.
وقيل: من شرفِ ولَدِ فاطمةَ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ ما مِنْ أحدٍ وإنْ عظُمَ بيتُه وشرُفَ محتِدفه إلا ويودّ أنه فاطميٌّ. وكذلك أقول أنا: إنّ ما مِنْ أحدٍ وإنْ غلا قدرُه وعلا ذكرُه إلا ويودُّ أنه يحسِنُ قولَ الشِّعر، ويستطيعُ نظمَه، ليتجمّلَ به ويتزيّنَ بنسبه.
وقال بعضُ النّاس: فما تقولُ في قوله صلى الله عليه وسلم: (امرؤ القيسِ حاملُ لواءِ الشُّعراءِ يقودُهم الى النار) ، وهلْ هذا مدْحٌ للشعرِ أم ذمّ؟ قلت: إذا تأملتَ المقصدَ وحقّقْتَ المُرادَ وجدتَ المعنى ينساقُ الى مدحِ الشعرِ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أرادَ حاملَ لواءِ شعراءِ الجاهلية والكفارِ، الذي هجَوا رسول الله وهجوا المُسلمين واستحقّوا النار بكُفْرِهم لا بشعرِهم، ولا خِلافَ ولا نِزاعَ بين العُلماءِ في ذلك. ولو أراد العمومَ لدخلَ تحت ذلك أصحابُه المقطوعُ لهم بالجنّةِ، وأولياؤه المؤمنونَ به، والمهاجرونَ والأنصارُ والتابعون. ومعاذَ الله أنْ يذهبَ الى ذلكَ مسلِمٌ أو يقول به عاقلٌ أو عالِم. وإنما كان مقصِدُه صلى الله عليه وسلم تفخيمَ حال امرئ القيسِ وتعظيم أمرِه وتقديمَ شِعرِه على أكفائِهِ ونُظرائِه، وأنهُ استحقّ عليهم التقديمَ والتفضيلَ بجَوْدَةِ شعرِه، وحُسْنِ معانيهِ وواقعِ تشبيهاتِه، فجعلَهُ لذلك عميدَهُم وسيِّدَهم والمتقدِّمَ عليهم وقائدَهُم. ولم يكنْ يستحقّ بكفرِه إلا النارَ وبحسنِ شِعره إلا التقدّمَ على الشُعراءِ، فكانت هذه الصّفةُ بهِ خليقةً، وسمَتُها به حقيقةً.
فقدْ ظهرَ لك مدحُ الشِّعرِ في مَطاوي هذا الذمِّ. ومثْلُ ذلكَ ما حكاهُ الأصمعيُّ أنّ أعرابياً أتى ابنَ عمٍّ لهُ، فسألهُ في مهْرٍ لزِمَهُ فلم يعْطِهِ شيئاً وردّهُ خائباً، فأتى رجلاً من المجوسِ وشكى إليهِ ما كان من ابن عمّه، فأعطاهُ المجوسيُّ ما التمسَه، وأطلقَ لهُ ما كان ابنُ عمه عنه حبَسَه، فأنشأ قائلاً:
كفاني المجوسيُّ مَهْرَ الرّبابِ ... فِدىً للمجوسيِّ خالٌ وعمّْ
شُهِدْتُ عليكَ بطيبِ المُشاشِ ... وأنّكَ أنتَ الجَوادُ الخِضَمّْ
وأنّكَ سيّدُ أهلِ الجحيمِ ... إذا ما تردّيْتَ فيمَنْ ظَلَمْ
تُجاورُ فرعونَ في قعْرِه ... وهامانَ والمكتَني بالحَكَمْ
لا ريبَ في أن الأعرابيَّ لم يُرِدِ الغضَّ والوضْعَ من المجوسيّ مع إحسانِه إليه عندَ حرمانِ ابن عمّه له، سيما وقد فدُ بطرفَيْه: خالِه وعمهِ، ولكنّه أرادَ تفخيمَ أمرِ المجوسيّ فجعله سيّدَ أهلِ الجحيمِ ومجاوِراً لفرعونَ وهامانَ وأبي جَهْل بن هشام، إذ لم يكن المجوسيُّ يستحقُّ إلا النّارَ، ولو كان مستَحقّاً للجنةِ لجعلَهُ مع أبرارها وأشرافِها، والمعنى ظاهر.
وقيلَ لمّا سمِعَ حسّانُ قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حقِّ امرئ القيس قال: وَدِدْتُ أنه قال ذلك فيَّ وأنا المُدَهْدَهُ في النار، حِرْصاً على بلوغِ الغاية القُصوى التي أوجبَتْ تفضيلَ امرئ القيس على سائر نُظرائِه، وتقديمَه على جميع أكفائِه. وسأل بعضُ الناس عن قولِ الرضيِّ الموسويّ:
ما لكَ ترْضى أن يُقالَ شاعرٌ ... بُعْداً لها من عدَدِ الفَضائِلِ
قُلنا: الرضيُّ كان طالِبَ منزلةٍ عظيمةٍ، ومحدِّثاً نفسَه بأمورٍ جسيمة:
مُنىً إنْ تَكُنْ حقاً تكن أحسنَ المنى ... وإلا فقدْ قضّى بها زمناً رغْدا