وفي هذا الجواب كفايةٌ، فقدْ أخذَ الفصلُ بحقِّهِ، واللهُ تعالى الموفِّقُ لسلوكِ طُرُقِه، إن شاءَ اللهُ تعالى.
الفصل الخامس
فيما يجب أنْ يتوخاهُ الشّاعرُ ويتجنَّبَه
ويطّرحَه ويتطلّبَه
يجب على الشّاعر أن يتجنّبَ سَفْسافَ الكلامِ، وسخيفَ الألفاظ، ونازلَ المعاني المسترَدَةِ، ووحشيَّ اللغةِ المتكلَّفَة، ولا يستعملُ التشبيهاتِ الكاذبةَ، ولا الإشاراتِ المجهولةَ، ولا الأوصافَ البعيدةَ، ولا العباراتِ الغثّةَ، ولا يختصر في موضع البَسْطِ، ولا يبسُطُ في موضع الاختصار. فإذا أراد أن يبني قصيدةً أو ينظم قطعةً صوّرَ المعنى في قلبه، ومثّلَهُ في نفسه كلاماً منثوراً، ثم أعدّ له ألفاظاً تُطابقه، واختار له من القوافي ما يوافقه، وجعله على وزنٍ يسْلسُ القولُ عليه، وينقاد المعنى إليه. فإذا نظم بيتاً تأمّلَهُ تأمُّلَ غيرِ راضٍ عن نفسه، ولا مغالطٍ لفهمه وحسِّهِ، وانتقدَه انتقاد متعنِّتٍ فيه، فإنْ وافق الصحّةَ، وجرى على منهاجِ الاستحسانِ، وإلا فالواجب عليه إسقاطُه. وإنِ اتّفقَ له بيتان على قافيةٍ واحدة، اختار الأوقعَ منهما وأبطلَ الآخرَ.
ويجبُ على الشاعر أنه لا يُظْهِرَ له شعراً إلا بعد ثِقتِه بجودتِه وسلامتِه من العيوب التي نبّه عليها العُلماءُ وأمروا بالتحرُّزِ منها. ولا يسلكُ سبيلَ الأعرابِ فيما نَهَيْنا عنه في صدر الكتاب.
وأمّا ارتكابُ الضروراتِ غير المحظوراتِ فيجوزُ استعمالُها وإن كانت عند المحققينَ عيباً، وقائلُها عندهم مسيئاً، إلا أنّ اجتنابَها مع جَوازها أحسنُ. ولا ينبغي الاقتداءُ بمن أساءَ من الشُعراءِ القدماءِ بل بمن أحسنَ منهم وأجاد. ولا يحذو إلا حذْوَ الشِّعر الجيّد، والنظم المختار، والطريقة الحسنة، والسُنّة الهادية، واللّفظ الرشيق، الحُلو اللطيف السّهلِ، الآخذِ بمجامع القلوب، المستولي على قُوَى النفوس، الواصلِ الى الأفهام من غير حجاب، الهاجمِ على العقول بلا مِطْرَقٍ ولا بوّاب، المُشاكلِ للأرواح لفظاً ورقّةً، وللسّحرِ حلاوةً ودقّةً.
ويجبُ على الشاعر أن يتنكّبَ سرِقةَ الأشعارِ ويتجنّبَ الإغارةَ على المعاني، فإذا حاولَ النظرَ الى شيءٍ من ذلك جعل خاطرَهُ كوادٍ مُطمئِنٍ قد مدّتْهُ سيولٌ جاريةٌ من شِعابٍ مختلفة، أو كمَنْ ركّبَ طيباً من أخلاطٍ متغايرةٍ من الطيبِ، فلا يُعرَفُ أرَجُ ما ركّبَهُ من أي طيبٍ هو.
ومما يُحكى في مثلِ ذلك أنّ خالدَ بنَ عبد الله القَسْري قال: حفّظني أبي ألفَ خطبةٍ ثم قال لي: تناسَها فتناسَيْتُها فغاضَتْ ثم فاضَتْ، فواللهِ ما أردتُ بعد ذلك شيئاً من الكلامِ إلا سهُلَ عليّ وعْرُه ولانَ لخاطري صعبُه.
وينبغي للشّاعرِ أنه إذا نظمَ شِعراً يردِّده برفيعٍ من صوته، فإنّ الغِناءَ فيه يكشفُ عيوبَه، ويبيّنُ متكلَّفَ ألفاظِه؛ ألا ترى الى قولِ حسّان بن ثابت:
تغنَّ في كلِّ شِعْرٍ أنتَ قائلُهُ ... إنّ الغِناءَ لهذا الشِّعْرِ مِضْمارُ
وينبغي للشاعر أن يتأمّل مصراعَ كل بيْتٍ حتى يُشاكل ما قبلَه ويطابقَ ما تقدّمه، فقد عاب العلماء على خَلْقٍ من الشُعراء القدماء مثلَ ذلك، كقول الأعشى:
أغَرُّ أبيضُ يُسْتَسْقى الغَمامُ بهِ ... لو قارعَ الناسَ عن أحسابِهمْ قَرَعاً
فالمِصْراعُ الثاني غيرُ مُشاكِلٍ للأوّل، وإنْ كان كلُّ واحدٍ منهما قائماً بنفسِه، وهذا معنىً ينبغي مراعاتُه والوقوفُ عندَه. ومثله قول امرئ القيس:
كأنّي لم أرْكَبْ جَواداً للذّةٍ ... ولم أتبطّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخالِ
ولم أسْبأِ الزّق الرّويَّ ولم أقلْ ... لخَيْليَ كُرّي كرّةً عندَ إجْفالِ
قال محمد بنُ أحمد بن طباطبا العلَوي: هذان بيتان حسنان، ولو وُضِعَ مصراعُ كلِّ واحدٍ منهما في موضع الآخر كان أشكلَ وأدخل في استواء النسج، فكأنْ يُقال:
كأني لم أركبْ جواداً ولم أقُلْ ... لخيليَ كُرّي كَرّةً بعدَ إجفالِ
ولم أسبأِ الزِّقَّ الرّويَّ للذّةٍ ... ولم أتبطّنْ كاعباً ذاتَ خَلخالِ
وينبغي للشاعر أن يتجنّب الحشوَ الذي يفسُدُ به البيت، كقول الأعشى لمّا مدح قيْساً:
ونُبّئْتُ قيْساً ولم آتِه ... وقد زعَموا، سادَ أهلَ اليَمَنْ