فقال أبو سعيد: بَلْ الويلُ والحرَبُ لك لا أمَّ لك. وللهِ العجَبُ كيف فات البُحتريَّ ذلك، واستحسنَ أن يقابلَ ممدوحاً ويفتتحَ كلامَهُ له بقولِه لكَ الويلُ، وما الذي أعجبه من هذا الافتتاحِ لولا غفلةٌ أدركتهُ!؟ وقيل: لما أنشدَ أبو الطيّب عضُدَ الدولةِ قصيدَهُ الذي أولُه:
أوْهِ بَديلٌ من قولَتي وَاها
قال له عضدُ الدولة: أوّه وكيَّه، ويلَكَ ما هذا الكلام.
وإنّما ينَبَّهُ على مساوئِ الشاعرِ المتقدّمِ ليتجنّبَ المتأخِّر ما أُخِذَ عليه وأخطأ فيه. وليسَ الغرضُ بذلك الغَضَّ من نُبلِه، ولا الاستنقاصَ بفضلِهِ.
والشاعرُ إذا أوقعَ الكلامَ مواقعَهُ، ووضعَ المعانيَ مَواضعَها اكتسى شعرُهُ البهاءَ، وكسَبَهُ حُسْنُ تأتّيهِ الثناءَ. وإذا أجادَ في نظمِهِ، وأساءَ في تأتّيهِ وقلّةِ حَزْمِه، غطّتِ الإساءةُ على الإحسان، واستحقَ بعد الإكرامِ محلّ الهوانِ.
ومن غلْطاتِ الشعراءِ أنّ أبا النّجْمِ العِجْليّ دخلَ على هِشام بنِ عبدِ الملك، وكان أحولَ فأنشدَهُ أُأَرجوزتَهُ اللاميّةَ التي يقولُ في أوّلِها:
الحمدُ للهِ الوَهوبِ المُجْزِلِ
حتى بلغ قولَه:
والشمسُ قد صارَتْ كعينِ الأحْوَلِ
غضب هشام وأمرَ به فضُربَ وسُجِن.
ووفدَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ العَبْليّ على هشامٍ أيضاً ومدحَه، فأجازَهُ بمئتَيْ دينارٍ، ثمّ خرجَ من عندِه فمرّ بالوليدِ بن يزيد وهو وليُّ عهدِ هشام فقال له:
يا بنَ الخليفةِ للخلي ... فةِ والخليفةُ عن قليل
فبلغ قولُه هشاماً فغضبَ وأرسلَ خلْفَهُ، فرُدَّ من الطريق فلمّا حضرَ قال له: ويلكَ! مدَحْتَني في كلمتِكَ التي أولُها:
لَيْلَتي من كَنودَ بالغَوْر عُودي ... بصفاءِ الهوى من امِّ أسيدِ
وقلتَ فيها لي:
ووقاكَ الُتوفَ من وارِثٍ وا ... لٍ وأبقاكَ صالحاً رَبُّ هودِ
ثم مررتَ بالويدِ فنَعَيْتَني إليه! قبحكَ الله، وأمرَ بهِ فضُربَ مئتَيْ سوْطٍ مكانَ كلِّ دينارٍ سوْطاً. ثم أقامَ عبدُ اللهِ العَبْليّ حتى هلَكَ هشامٌ وقُتِلَ الوليدُ وقام مروانُ بنُ محمدٍ فمدحَهُ ومدحَ وليَّيْ عهدِه عبدَ الله وعُبَيْدَ الله فقال:
لا حُرِماها ولا بها خَلَصا ... حتى يكونَ البَدا بكَ الهَرَمُ
فضحِكَ مروانُ وقال: يا عبدَ الله لقد أدّبَك أبو الوليد، يعني هِشاماً. ولمحَ ذلك بعضُ المُحدَثين فقال:
ووليُّ عهدِكَ لا يزالُ أميرا
ومن بوادرِ اللسانِ التي يجبُ تجنُّبُها على كل شاعرٍ بل كل إنسان، ما اعتمدَهُ الأخطلُ مع الجحّاف بن حكيم السُلمي؛ فقيل إنّ الأخطلَ دخلَ على عبدِ الملكِ بن مروانَ والجحّافُ عندَه وكان قد اعتزلَ حرْبَ بني تغلبَ، فلما رآه الأخطلُ أنشدَ محرِّضاً للجحّافِ أو مستهزئاً به:
ألا سائِلِ الجَحّافَ هلْ هوَ ثائِرٌ ... بقَتْلى أُصيبَتْ من سُلَيْمٍ وعامِر
فقبضَ الجحّاف على لحيتِه وقال:
نعَمْ سوفَ نَبْكيهِمْ بكلِّ مُهَنَّدٍ ... ونَنْعى عُمَيْراً بالرّماحِ الشّواجِرِ
يعني عُمَيْر بن الحُبابِ السُلمي. ثم قال: ما ظنَنْتُ يا بنَ النصرانية أنّكَ تجترئُ عليّ ولو رأيْتَني مأسوراً، وأوعدَهُ وتهدَّدَهُ وخرجَ يجرُّ مُطْرَفَهُ غضباً، فقالَ عبدُ الملكِ للأخطل: ما أراكَ إلا قد جررتَ على قومِكَ شرّاً، فما فارقَ الأخطل موضعَهُ حتى حُمَّ، فقال له عبدُ الملك: أنا جارُكَ منهُ، فقال: إنْ أجَرْتَني وأنا يقظان فمن يُجيرُني وأنا نائِمٌ؟ فضحك عبد الملكِ منه. ومن هذا أخذَ السّلمي قولَه:
وعلى عَدوِّكَ يا بنَ عمِّ محمّدٍ ... رَصَدانِ: ضَوْءُ الصُبْحِ والإظلامُ
فإذا تنبّهَ رُعْتَهُ، وإذا هَدا ... سلّتْ عليهِ سُيوفَك الأحلامُ