إنّ زمَّ الكلامِ مُبْقٍ على العِرْ ... ضِ وبالقولِ يُستَثارُ المَقالُ
فلما سمِعَ المفضَّلُ ذلك استحالَ لونُه ورشحَ جبينُهُ عرَقاً. ثم انصرَفَ الأعرابيُّ، فقال المفضّل: واللهِ لقد ذكر شيئاً ما كنتُ أظنّ على وجهِ الأرضِ أحداً يعرِفُهُ، فالحمدُ للهِ إذْ لم أستَزِدْهُ.
قولُ المفضّل: طيا يا كلمةٌ فاستمرّتِ، من بيتٍ وهو:
وما طيّئٌ إلا نَبيطٌ تجمّعوا ... وقالوا طيا يا كلمةٌ فاستمرَّتِ
وقريبٌ من هذه الحكاية ما رَواهُ لي مؤدّبي الشيخُ أبو محمّد بن أبي البرَكات بن البقال المُقرئُ المؤدّب قِراةً عليه في سنة اثنتين وستمائة، قال: حدّثنا أبو محمد سلمانُ بن مسعود بن الحسين القصّاب بجامعِ المنصور قال: حدّثنا أبو الغنائمِ محمد بن علي النرسيّ الكوفيُّ قال: حدّثنا الشريفُ أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ علي بن الحسن العَلَوي الحسَنيّ قال: حدّثنا أبو الحسن محمدُ بن زيْدٍ بن مسلم قال: حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِ الله قال: حدّثنا حرَميّ قال: حدثنا عبدُ الله قال: حدّثنا إسماعيلُ بنُ مهران قال: حدّثني أحمدُ بن أبي نصر عن أبان بن عثنام عن أبان بنِ تغلبَ عن عِكْرمة عن ابن عبّاس قال: حدّثَني عليُّ بن أبي طالب رضيَ الله عنه قال: لمّا أُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يعرضَ نفسَهُ على قبائل العربِ خرجَ وأنا معه وأبو بكر، وكان رجلاً نسّابةً، فسلّم فردّوا السلام، فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أمِن هامتِها أو من لَهازِمِها؟ قالوا: بل من هامتِها العُظْمى، قال: فأيُّ هامتِها العُظمى؟ قالوا: ذُهلٌ الأكبرُ، قال: أفَمنكُم عوْفٌ الذي كان يُقال: لا حُرَّ بوادي عوْفٍ؟ قالوا: لا، قال أفمنكُم بسطامٌ أبو اللواء ومنتهَى الأحياءِ؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الحَوْفَزانُ قاتِلُ الملوكِ وسالبُها أنفسَها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكُم المُزدَلِفُ صاحبُ العِمامةِ الفَرْدَةِ؟ قالوا: لا، قال: أفأنْتُم أخوالُ الملوكِ من كِندة؟ قالوا: لا، قال: أفأنتم أصهارُ الملوكِ من لخْمٍ؟ قالوا: لا، قال: فلستُم ذُهْلاً الأكبر، أنتم ذُهْلٌ الأصغر فقام إليه غُلامٌ من بني شيبان يُقال له دَغْفَل حين بقَلَ فقال:
إنّ على سائِلِنا أنْ نسأَلَهْ ... والعِبءُ لا يُعرَفُ حتّى تحْمِلَهْ
يا هذا، إنّك سألتَنا فلمْ نكْتُمْكَ شيئاً فممّن الرجل؟ قال: من قُريش، فقال: بَخٍ بخٍ، أهلُ الشرفِ والرياسةِ، فمن أيِّ قُريشٍ أنتَ؟ قال من بن تَيْم بنِ مُرّة، قال: أمكنتَ واللهِ الرامي من سواءِ الثُّغرةِ، أفمنكُم قُصيُّ بنُ كلاب الذي به جمعَ اللهُ القبائلَ من فِهْرٍ فكان يُدعى مُجَمِّعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكُم هاشم
... الذي هشَم الثّريدَ لقومِه ... ورجال مكة مُسْنِتون عِجافُ
قال: لا، قال: فزمنكُم شَيْبةُ الحَمْدِ مُطْعِمُ طَيْرِ السماءِ الذي كأنّ وجهَهُ قمرُ السماء يُضيءُ ليلَ الظلامِ الدّاجي؟ قال: لا، قال: أفَمِنَ المُفيضينَ بالناس أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهلِ النّدوةِ أنت؟ قال: لا، قال أفمِنْ أهلِ الحجابةِ أنت؟ قال: لا، قال أفمن أهْلِ السِّقايةِ أنت؟ قال: لا، قال: واجتذَبَ أبو بكر رضي الله عنه زمامَ ناقتِهِ ورجَعَ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال دَغْفَلٌ:
صادَفَ درْءُ السّيْلِ درْءاً يدفعُهْ ... يهْضِمُهُ بدَفْعِهِ أو يصدَعُهْ
أمَا واللهِ لو ثبَتَّ لأخبرتُكَ أنكَ من زَمَعاتِ قُريشٍ، أوَ ما أنا بدَغْفَل. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليّ: فقلتُ يا أبا بكر، لقد وقعت من الأعرابي على باقِعَةٍ، قال: أجَلْ! إنّ فوقَ كلِّ طامّةٍ طامّةً والبلاءُ موكّلٌ بالمنطق. وتمامُ الحكايةِ معروفٌ. والأمر كما قال أبو بكر رضيَ اللهُ عنه: إنّ فوقَ كلِّ طامّةٍ طامّةً.
ومن مِثلِ ذلك، شَكا الكُمَيْتُ في قوله:
أنِصْفُ امرئٍ من نصفِ حيٍّ يَسبُّني ... لَعمري لقد لاقَيْتُ خَطباً من الخَطْبِ
هنيئاً لكلْبٍ انّ كلباً تسُبُّني ... وإنيَ لمْ أرْدُدْ جواباً على كلْبِ
لقد بلغَتْ كلبٌ بسَبّيَ حُظْوَةً ... كفَتْها قديماتِ الفضائحِ والوَصْبِ