الآخرة، والله لا أفعلنّ ولو قتلني، فحكي قوله لابن هبيرة فقال: بلغ قدره أن يعارض يميني بيمينه، فدعاه فحلف إن لم يل القضاء ليضربن على رأسه حتى يموت، فقال له أبو حنيفة: هي موتة واحدة، فأمر به فضرب عشرين سوطا على رأسه، فقال أبو حنيفة: اذكر مقامك بين يدي الله، فإنه أذل من مقامي بين يديك، ولا تهددني فإني أقول: لا إله إلا الله، والله سائلك عني حيث لا يقبل منك جوابا إلا بالحق، فأومأ إلى الجلاد أن أمسك وبات أبو حنيفة في السجن، فأصبح وقد انتفخ وجهه ورأسه من الضرب، فقال ابن هبيرة: إني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: أما تخاف الله تضرب رجلا من أمتي بلا جرم وتهدِّده، فأرسل إليه فأخرجه واستحلّه [1].
وكذلك عرض [2] عليه الخليفة العباسي المنصور القضاء، فأبى، فسجنه، ومات محبوسا في السجن، رحمه الله.
ولعل رفضه لهذا المنصب يعود إلى جملة أسباب منها: خوفه من الله تعالى؛ حيث خشي أن يجور في حكم من الأحكام التي تعرض عليه، فلذلك آثر الضرب بالسياط في الدنيا على مقامع الحديد في الآخرة.
أضف إلى ذلك أن القضاة تعرض عليهم منازعات يتصل بعضها بأمراء ذلك العصر وحكّامه، والإمام لا يمالئ أميرا أو يجامل وزيرا، أو يحابي كبيرا، في محارم الله أن تؤتى. وكان مع زهده وورعه كثير العبادة، حتى قيل إنه سمي الوتد [3] لكثرة صلاته وتهجّده وطول قيامه. [1] كتاب أخبار أبي حنيفة وأصحابه ص58 بتصرف. [2] المنتظم "ق-238-ب" مخطوطة في مكتبة أيا صوفيا بتركيا. [3] تاريخ بغداد 13/354.