وأمّا ثبوته بالفطرة، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهما عند الدعاء، ويقصدون جهة العلوّ بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمّد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين، وهو يتكلّم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان. فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرووة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلوّ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا، قال: فلطم أبو المعالي رأسه ونزل. وقال. حيّرني الهمداني حيّرني. أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقّوه من المرسلين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله، ويطلبه في العلوّ[1].
وقد ألف الشيخ ابن قيم الجوزية كتاباً مستقلاً[2] لإثبات هذه القضية حشد فيه من الأدئة الدامغة ما يجعلها من المسلمات التي لا تقبل المراء.
وقبل أن أختم الحديث عن هذه القضية أحب أن أبيّن أن لفظ الجهة فيه إجمال وتفصيل فنحن نوافق على نفيه عن الله تبارك وتعالى من وجه، ولكننا نثبته من الوجه الآخر.
ذلك أنه قد يراد بنفي الجهة أن الله تعالى ليس موجوداً في داخل هذا العالم، فإن إريد هذا، فإن الله تبارك وتعالى منزه عن أن يكون في شيء من مخلوقاته. [1] شرح الطحاوية ص: 263-264. [2] هو كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية.