أوضح في العقول الفطرية توجيه وجوده من دون أن يوجده موجد. وذلك أن الفطرة والعقل قاضيان بأن الموجود من هذا الأشياء التي نراها لابد له من موجد، وأنه مهما كان لبعضها صانع منها فإن فوقها جميعها رباً هو الموجد الحقيقي. ولكن كثيراً من النفوس لا تقنع بهذا حتى تقول: فهذا الموجد الحقيقي من أوجده؟
فإن قيل: لا موجد له.
قالت: وكيف وجد من غير موجد؟ فإذا قيل: هذا السؤال إنما يأتي فيما ثبت أو جاز أنه لم يكن ثم كان، وذلك كأن تمر ببقعة لا بيت فيها ثم تمر بها وفيها بيت، وكالشمس فإن العقول الفطرية حتى الساذجة تجيز أن يخلق الله تعالى شمساً أخرى غير هذه الشمس، وتجيز أن يكون قد مضى زمان لا شمس فيه ثم خلق الله تعالى هذه الشمس، وهكذا سائر المخلوقات، وإنما قد تتوقف العقول الفطرية في بعض الأشياء التي لا ضير في التوقف فيها من جهة العقل، وذلك كالفضاء والزمان فإنهما أمرين عدميين كما عليه المتكلمون فالأعدام أزلية، [1] وإن كانا موجدين فلا يصلحان ولا واحد منهما أن يكون رباً أو جد هذه الموجودات. والمقصود أنه في مثل البيت والشمس يأتي ذلك السؤال فيقال: لم يكن موجوداً فمن أو جده؟ فأما الموجود الحق الذي ثبت أنه لم يزل فلا يأتي في حقه ذاك السؤال أصلاً.
فقد لا تطمئن النفس لهذا حق الاطمئنان، وقد نبه الشرع على هذا وعلى علاجه، ففي (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن أبي هريرة «قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله [2] ولينته» لفظ البخاري في [1] أوضح من هذا أن يقال: الأعدام عدم والعدم لا يتصوره العقل وإنما يتخيل بتصور ضده ن الموجودات، فإذا طرد من بين الموجودات فلا يتصور أن يكون موجداً لشيء منها ونحن في غنى عن تخيل أزلية أو غيرها للعدم. م ع [2] ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية رداً على الرازي في تشكيكه أن الاستعاذة بالله كيف تكون هلاجاً في دوام وجود الله وعدم أوليته؟ أفاد شيخ الإسلام أن الشك في العلوم =