تعالى الناس على الهيئة التي ترشحهم لإدراك ذلك بدون صعوبة شديدة، وذلك بأن يزيد في عقولهم ويهيئ لهم من آيات الآفاق والأنفس ما يقرب إدراك الحق إلى أذهانهم، حتى إذا خاطبهم به في كتبه، وعلى ألسنة رسله، ونبههم على الدلائل القريبة في ذلك أمكن من يحب الحق منهم ويرغب فيه أن يفهم ذلك ويدركه.
فنقول للمتعمقين: ألم يعلم الله عز وجل ما يكون عليه حال الناس؟ أم علم ولكن لم يقدر على أن يخلقهم على الهيئة المذكورة ويهيئ لهم من آيات الآفاق والأنفس ما ذكر؟ أم علم وقدر، ولكن لم يعبأ باقتضاء الحكمة، فضطر سبحانه وحاشاه - أخيراً إلى الكذب والتلبيس الذي يوقع الناس في نقيض ما خلقهم لأجله في ا؟ لأصول وحرصاً على أن يقبلوا بعض الفروع؟ هذا مع ما يترتب على ذلك من المفاسد كما يأتي.
الثاني عشر: أن كلمات إبراهيم كان إبراهيم محتاجاً إليها حاجة محققة، وتلك النصوص - لولم تكن حقاً - على خلاف ذلك، فإن العرب كانوا في جاهليتهم يعترفون بوجود الله وربوبيته وغير ذلك، كما سلف في الجواب عن المقصد الرابع، فلوبنى الشرع أولاً على ما كانوا يعترفون به مما يعترف المتعمقون أنه حق في نفس الأمر، وعلى ما يشبه ويقرب منه، وسكت عن غيره مما تأباه عقولهم، لم يكن ما ينفرهم عن قبول الشرع، فأي حاجة دعت إلى أن يخاطبوا بما يزعم المتعمقون أنه باطل؟
بل أقول: لوجاءهم الشرع بالأصل الجامع في الجملة لما يزعمه المتعمقون، وهو أن الله
عز وجل ليس داخل العالم ولا خارجه، ثم كرر الدعوة والاستدلال كما صنع في إثبات ما كانت عقولهم تأباه من قدرة الله عز وجل على حشر الأجساد، وكما صنع في نفي ما كانت عقولهم تتقبله أو توجبه من أن الله عز وجل ولداً - لكان فيهم من يخضع لذلك، ثم لا يزالون يزدادون، وأنت ترى من لا يحصي من المنتسبين إلى العلم وطلبه وقبلوا ذاك الأصل الجامع، وبعض فروعه ممن أحسنوا به الظن من المتكلمين؛ فقلدوه في ذلك وتعصبوا له، وعادوا من يخالفه، غير مبالين