والشّهداء ممن كانت قبورهم بالمدينة، وكذا تتبّعنا آثار أصحابه صلى الله عليه وسلم؛ فلم نجد فيها أحدًا منهم فعل ذلك؛ فعلمنا قطعًا أنّ شدّ الرّحل والسّفر لزيارة القبور غير مشروع أصلًا؛ إذ لو كان مشروعًا لما تركه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، [ولفعله ولو] مرة واحدة في عمره، وكذا أصحابه من بعده ـ كما تقدّمت الإشارة إليه فيما سبق ـ. والله الهادي.
وأمّا قوله: «فإن قلتَ: إنّ هذا ليس مما يُسَلِّمه الخصم؛ لجواز أن يكون سفرهم ضُمَّ فيد قَصد عبادة أخرى إلى الزّيارة، بل هو الظّاهر؛ كما ذكر كثير من المُصَنّفين في المناسك: أنّه ينبغي أن ينوي مع زيارته التّقرّب بالتّوجه إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصّلاة فيه، والخصم ما أنكر أصل الزّيارة؛ إنّما أراد أن يبيّن كيفية الزّيارة المستحبّة؛ وهي أن يضُمّ إليها قَصد المسجد ـ كما قاله غيره ـ» :
أقول: هذا الذي ذكره العلّامة السّبكيّ هو الذي ذكره عامّة المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في صفة الزّيارة، حتى المتعصّبون على شيخ الإسلام ـ كابن حجر المكيّ؛ في شرحه لـ «مناسك النّوويّ» ، وكتابه «الجوهر المنظم» ـ، وهو الذي قال به شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فأيّ إجماع أعظم من هذا؟! وقد شهد به السّبكيّ نفسه؛ فلا خلاف ـ حينئذ ـ بين شيخ الإسلام وبين غيره من سائر العلماء من المتقدّمين والمتأخّرين؛ ومنه تعلم أنّ تشنيع السّبكيّ وابن حجر عليه في غير محلّه؛ فانظر ـ رحمك الله ـ بعين الإنصاف إلى السّبكيّ؛ كيف أنكر الحقّ ومال عنه، بعد أن شَهِدَ به وعزاه إلى أكثر المُصَنّفين في المناسك، ثم أخذ يُبطل هذا بقوله: «قلتُ: أمّا المنازعة فيما يقصده النّاس؛ فمَن أنضف نفسه وعرف ما النّاس عليه؛ علم أنّهم إنّما يقصدون بسفرهم الزّيارة من حين يُعرِّجون إلى طريقة المدينة، ولا يخطر غير الزّيارة من القربات إلَّا ببال قليل منهم، ثم مع ذلك هو مغمور بالنّسبة إلى الزّيارة في حقّ هذا القليل، وغرضهم الأعظم هو الزّيارة، حتّى لو لم يكن ربما لم يسافروا؛ ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس» انتهى!