في قلوبهم عند قبره مودّة له ورحمة ومحبّة أعظم ممّا يكون بخلاف ذلك، والرّسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في كلّ مكان وزمان؛ فلا يؤمرون بما يوجب نقصّ محبّتهم وإيمانهم في عامّة البقاع والأزمنة، مع أنّ ذلك لو شُرع لهم؛ لاشتغلوا بحقوقهم عن حقّه، واشتغلوا بطلب الحوائج منه ـ كما هو الواقع ـ؛ فيدخلون في الشّرك بالخالق، وفي ترك حق المخلوقّ؛ فينقص تحقيق الشّهادتين: شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنّ محمّدًا رسول الله.
وأمّا ما شرعه لهم من الصّلاة والسّلام عليه في كلّ مكان، وأن لا يتّخذوا بيته عيدًا ولا مسجدًا، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه كما تُزار القبور؛ فهذا يوجب كمال توحيدهم للرّبّ ـ تبارك وتعالى ـ، وكمال إيمانهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم ومحبّته وتعظيمه، حيث كانوا لاهتمامهم بما أُمروا به من طاعته؛ فإنّ طاعته هي مدار السّعادة، وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، وأهل الجنّة وأهل النّار؛ فأهل طاعته هم أولياء الله المتّقون وجنده المفلحون وحزبه الغالبون، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك.
والذين يقصدون الحجّ إلى قبره وغبر غيره، ويدعونهم ويتّخذونهم أندادًا من أهل معصيته ومخالفته، لا من أهل طاعته وموافقته؛ فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنّوا أنّ هذا من موالاته ومحبّته، كما يظنّ النّصارى أنّ ما هم عليه من الغُلُوّ في المسيح والشّرك به من جنس محبّته وموالاته، وكذلك دعائهم للأنبياء الموتى ـ كإبراهيم وموسى وغيرهما (عليهم السّلام) ـ، ويظنّون أنّ هذا من محبّتهم وموالاتهم؛ وإنّما هو من جنس معاداتهم؛ ولهذا يتبرّؤون منهم يوم القيامة، وكذلك الرّسول صلى الله عليه وسلم يتبرّأ ممّن عصاه، وإن قصد تعظيمه والغُلُوّ فيه؛ قال ـ تعالى ـ: {وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمَن اتّبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنّي بريء ممّا تعملون} ؛ فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرّؤوا من كلّ معبود غير الله ـ تعالى ـ ومن كلّ مَن عبده. قال ـ تعالى ـ: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا براء منكم وممّا تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحدَه} ، وكذلك سائر الموتى؛ ليس في مجرّد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبّة إلَّا لمَن عرف أحوالهم بدون ذلك؛ فيتذكر أحوالهم فيحبّهم،