فالحقيقة أنهم عارضوا النقل الصحيح، وكان الأصل أنه لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح قطعي الدلالة أبداًَ، وقد حصل تعارض بين صحيح وغير صحيح أو بين صريح وغير صريح، أما إذا كَانَ الدليلان ظنيين فهذا قد يكون من أسباب الخلاف، وذلك أنه قد يوجد حديث يفهمه بعض النَّاس عَلَى أنه مخالف لما يظنه هو -كما مر معنا في حديث التربة- ويقول: أنا أفهم أن هذا الحديث يخالف ما عليه النظريات العلمية الكونية في نشأة الكون -مثلاً- وفهمه لهذا الحديث هو فهمٌ ظني، لأنه ليس هناك قطع بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام بالأيام التي نعرفها نَحْنُ اليوم، وهذا الإِنسَان عارض هذا الأمر بنظريات ظنية واحتمالات وتخمينات، فيكون بهذا تعارض ظني بظني، وتعارض ظني بظني أهون وأيسر، وما علينا إلا أن نفكر وأن نمحص، فمتى ترجح أحدهما وتحول إِلَى قطعي أو كَانَ ظناً راجحاً أرجح من الآخر عملنا به، ولا غضاضة ولا حرج في ذلك، ولله الحمد.
فيقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [أو بقوله: العقل يشهد بضد ما عليه النقل، والعقل أصل النقل فإذا عارضه قدمنا العقل] نقول: هذا لا يكون قط؛ لكن إذا جَاءَ ما يوهم مثل ذلك، فإن كَانَ النقل صحيحاً، فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك إذا كَانَ النقل صحيحاً لا يمكن أن يعارضه شيء من ذلك أبداً -فمثلاً- عندما يثبت عندنا حديث النزول وفيه: (أن الله تَعَالَى ينزل كل ليلة في الثلث الأخير من الليل) ويثبت عندنا أيضاً الحديث الذي رواه مسلم وأَحْمَد وغيرهما أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سأل الجارية أين الله؟ قالت: في السماء.
فهل نقول: إن هذه الأحاديث تعارض قولهم: (إنه - عَزَّ وَجَلَّ - تَعَالَى أن تحيط به جهة، أو أن يكون في مكان، أو يدرك وصفه بعلو أو بغيره، بل نرفع النقيضين ونقول: لا داخل العالم ولا خارجه وهذا هو قاطع عقلي وبرهان عقلي!) .