حقيقة تسبيح الجمادات لله سبحانه
الله جل وعلا يجعل عند غير العاقل إرادة فيسبح حسب ما أراده الله جل وعلا، وليس كما يقول الذين لا يؤمنون إلا بالمشاهدات والمرئيات فيقيسون ما رأوه عليه: إن هذا التسبيح بلسان الحال، بمعنى أن من رآها دلته على وجود الله، فيسبح الله.
نعم، هذا موجود في المخلوقات، فإن العاقل إذا نظر إلى الجبال أو إلى الأشجار والنبات والحيوانات دله ذلك على أن لها خالقاً يستحق أن يسبح ويحمد ويعبد، وهو الله وحده، ولكن قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [التغابن:1] ، ظاهره أنه تسبيح حقيقي بلسان يسمع حسب تسبيحه؛ ولهذا جاء في الآية الأخرى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] ، ومعنى (لاتفقهون) أنكم لا تدركونه وتعلمونه، وهذا يدل على أنه نطق، وكذلك قوله فيما امتن به على عبده داود عليه السلام: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] ، وتسبيح الجبال لا يختص بوقت داود، بل هو مستمر قبل داود وبعده، وكذلك ما جاء من تسبيحها بالعشي والإشراق، فإن تسبيح الله جل وعلا لا يختص بالعشي والإبكار، بل هو دائم في الليل والنهار.
ثم الأدلة الخاصة على حقيقة التسبيح كثيرة، منها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث) ، أي يقول: السلام عليك يا رسول الله! وقد سمع تسبيح الطعام بين يديه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك الحصى.
وحنين الجذع يكاد يكون متواتراً، وهو جذع نخلة كان يخطب عليه في هذا المسجد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه أمر أن يصنع له منبر من الخشب، فلما صنع المنبر ونُصِب صعد عليه، فأول ما صعد عليه يخطب، سمع لذلك الجذع وهو بجواره حنيناً، كحنين الناقة التي فقدت ولدها، فنزل صلوات الله وسلامه عليه والتزمه، فجعل يهدأ كهدوء الصبي الذي يبكي إذا التزمته أمه، ثم قال: (لو تركته لبقي يحن) ، وسبب ذلك أنه فقد ذكر آيات الله وصفاته الذي كان يقال عليه، فحنَّ لذلك.
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:20-21] ، يعني أنهم -كما جاء تفصيل ذلك- إذا جاءتهم الشهود تشهد عليهم، فإذا بعض الناس إذا أوقفوا على أعمالهم، وقامت الملائكة تشهد عليهم، وجاءت بالصحف التي سجلتها عليهم، فإنهم يقولون: يا رب! لا نقبل شهادة هؤلاء، ولا نقبل إلا شهادة من أنفسنا! عند ذلك يختم على أفواههم ويقال لجلودهم وأسماعهم وأبصارهم وأيديهم: تكلمي! فتتكلم اليد تقول: تناولت كذا وكذا في وقت كذا في مكان كذا في ساعة كذا، وتقول الرجل: مشيت إلى المكان الفلاني في وقت كذا وكذا وتقول العين: أبصرت كذا وتذكر الوقت والساعة والمكان، وتقول الأذن: استمعت إلى كذا، ويقول الجلد: باشرت كذا وهكذا ثم بعد ذلك يخلى بينهم وبين النطق، فيعودون على جلودهم وأسماعهم وأبصارهم باللوم، ويقولون: كنا ننافح عنكم، فلماذا فضحتمونا؟ عند ذلك تقول الجلود والأسماع والأبصار والأيدي والأرجل: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، أي: ليس هذا بإرادتنا، ولكنه بإنطاق الله إيانا، فحينئذٍ يقول العبد: سحقاً لكنّ وبعداً، فعنكن كنت أجادل! فالمقصود أن هذا نطق يسمعونه ويسمعه الحاضرون عندهم، وبذلك تنقطع حجتهم نهائياً، مع أنهم في فعلهم هذا ازدادوا بعداً من الله جل وعلا، فالتسبيح الذي يذكره الله جل وعلا على ظاهره.
وقدم السماوات على الأرض؛ لشرف السماء، ولأن السموات كل من فيها مطيع خاضع، أما الأرض فأكثر من فيها من بني آدم ومن الجِنَّة عصاة.
وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} [التغابن:1] ، فالملك يدل على عزه وقوته، ويدل على كمال قدرته، وأما الحمد فهو يدل على اتصافه بجميع الصفات الكمالية التي يحمد عليها كما سبق.