وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضراً بين يديه (من وراء آلاف الأميال) من قبل أن يرتد إليه طرفه: «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (1)
وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحا منصورا؛ فإنه دخلها وهو يقرأ سورة الفتح يرجع [2] ، ونزل بيت أم هانئ فصلى فيه ثماني ركعات [3] ، وظل مكثرا من التسبيح والاستغفار إلى أن توفاه الله تأويلا لقوله تعالى:
«إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [1] وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [2] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا» [النصر: [1]-[3]] .
ولهذا قال أشياخ بدر لعمر رضي الله عنه: "أمرنا أن نحمد ربنا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا" [4] ، وهكذا فعل سعد بي أبي وقاص يوم فتح المدائن، وجعلها بعض العلماء سنة فقالوا: يستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات [5] .
فهذا حال المؤمنين في حال النعمة وذروة الطمأنينة.
وأما الكافر فإنه مستكبر على ربه متمرد عليه حال الرخاء والنعمة، يكفره ولا يشكره، يستخدم آلاءه في معاصيه، يطغى إذا استغنى ويفسق إذا أترف. حتى إذا ما نزلت به نازلة وأحدقت به كربة وأحاطت به مصيبة سقط من عرش كبريائه الوهمي، وانهار الزيف أمام الواقع، وانكشف الغيم عن الفطرة المكبوتة، فأيقن حينئذ أنه لا يملك حولا ولا طولا، وضلت عنه الأرباب المزعومة التي كان يتعلق بها من قبل، وأخلص لله الدعاء وأظهر له من الافتقار والضراعة مالم يكن ليخطر له ببال حال الأمن والعافية. [1] الظلال، ص 3697 [2] البخاري (8/13) [3] البخاري (8/19) [4] البخاري (8/735) ، وذلك ضمن قصتهم معه بشأن تقديم ابن عباس، ولا خلاف في الحقيقة بين قولهم وقوله في تفسير السورة، فإنهم نظروا إلى ظاهر دلالتها ومنطوقها، وهو نظر إلى مضمونها وفحواها. وهو ما أراده عمر رضي الله عنه بالسؤال. [5] انظر ابن كثير (8/532) .