ونواة هذه الطائفة كانت بين الصحابة في الصدر الأول، فإننا نرى أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان - مثل أبي بكرة، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين".
ثم ساق حديث أبي بكرة الآتي، وقال: "هذه النزعة إلى عدم الدخول في الحروب بين المسلمين بعضهم وبعض هي الأساس الذي بني عليه مذهب الإرجاء، ولكنه لم يتكون كمذهب - كما رأينا إلا بعد ظهور الخوارج والشيعة.
وبعد أن كان مذهباً سياسياً أصبح - بعد - يبحث في أمور لاهوتية، وكانت نتيجة بحثهم تتفق ورأيهم السياسي "!!
وفي الحاشية يعلق على ذلك قائلاً: "يقول النووي على مسلم: إن القضايا كانت مشتبهة، حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب" [1] .
ونحن قد سبق أن بيّنّا أن الممسكين عن الفتنة أقسام مختلفة، وهنا لا بد من بيان حقيقة موقف الصحابة رضي الله عنهم، وخطأ من نسب إليهم الإرجاء، سواء أكان إرجاء شك وحيرة أم اعتقاد وبدعة، والأمر في حقيقته يرجع إلى مسألة فقهية، وهي حكم قتال الفتنة الذي جرى بين الصحابة، وحكم قتال الفتنة بين المسلمين عامة.
ومع إيماننا بأن الأولى هو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، فإنه لا حرج في عرض مواقفهم على النصوص الشرعية التي أمر الله تعالى بالرد إليها في كل نزاع، لا سيما وهي - ولله الحمد - تدل على صحة ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيهم، وخاصة أهل الحديث، كأحمد وسفيان، بخلاف ما ذهب إليه أهل الرأي وكثير من الفقهاء المتأخرين، مع ما في هذا من مصالح، كأخذ العبرة، ونفي التهمة تفصيلاً بعد نفيها إجمالاً فنقول:
إن النووي رحمه الله شافعي المذهب، وكثير من متأخري الشافعية يرون تصويب علي رضي الله عنه وتخطئة من حاربه أو توقف عن الحرب معه، ولكن النووي رجل محدث، وقد رأى من صحة أحاديث النهي عن القتال في الفتنة وكثرتها ما لم يستطع [1] فجر الإسلام، ص 233- 235، وأبو زهرة (1/133) .