الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنموا وتتضح سماتها، وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها وقيمها الخاصة وطابعها المميز بين سائر الجماعات.
وكانت الأحداث تنهال على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً لدرجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها فلا تعود خليطاً مجهول القيم" [1] .
وكل ذلك إنما هو مقضيات جديدة للإيمان، وتحقيق واقعي لزيادته التي ظل هذا الجيل يترقى فيها درجة بعد درجة حتى وصل إلى الكمال الذي لم يبلغه جيل مثله قط، فاستحق بذلك القوامة على العالمين، والثناء العظيم من رب العالمين.
ولو أن إيمانهم وقف عند عقبة من عقبات الطريق الشاقة، أو تملص من فتنة من فتن التمحيص الحادة، لما تحقق لهم كل ما تحقق، بل ربما خسروا وخسرت الإنسانية كلها.
ومع ما في الخندق من زيادات للإيمان جديدة ودروس للبناء جديدة، فإنها كانت امتداداً طبيعياً لسنة الله في سير هذا الدين - كما ألمحنا إليها - وفي تزكية النفس الإنسانية به.
ذلك أن الله تعالى لم ينزل القرآن بمواعظه وتزكيته على قوم محبوسين في الأديرة والصوامع، أو قابعين في زوايا الحياة، وإنما اقتضت حكمته أن تكون الموعظة والتزكية من خلال الابتلاءات والامتحانات المتكررة "فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجاً صحيحاً، ولا تصح ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية التي تحفر في القلوب، وتنقش في الأعصاب، وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث.
أما القرآن فينزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته، وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة" [2] . [1] الظلال، الأحزاب، ص 2831. [2] الظلال، الأحزاب، ص 2832.