المقدمة
الحمد لله الذي خلق السماوات وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوضح الحجة وأبان المحجة وترك الأمة على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. أما بعد:
فإن التفرق في الدين والتخاصم في رب العالمين سنة الأمم قبلنا وواقع حالنا بعدهم، وقد كانت أول فرقة مرقت من الدين وشقت صفوف المسلمين هي (الخوارج) . وإنما كان ضلالها حينئذ في مسألة الإيمان؛ إذ كفرت المسلمين بالذنوب، واستحلت دمائهم وأموالهم، ثم تتابعت الفتن وظهرت الفرق، وكلما ظهرت البدع وانتقصت الطاعات وارتكبت المحرمات ازداد حال الأمة تفرقاً وذلاً وضلالاً.
هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ربى أصحابه على التسليم والاتباع والسمع والطاعة، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا اعتراض على أمره، ولا تولي عن طاعته، فكانوا خير أصحاب وحواريين كما كان نبيهم صلى الله عليه وسلم خير نبي ورسول.
آمنوا بالله ورسوله الإيمان الصادق الحي الذي أثنى الله تعالى عليهم به في كتابه، وما عرفوه فلسفة ولا نظريات ولا جدلاً، وإنما هو الطاعة في المنشط والمكره، والصبر في الرخاء والشدة، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد.
لم يزل هذا الإيمان يكمل ويزداد من زمن الاضطهاد والحصار بمكة، إلى أحداث أحد والخندق بالمدينة، إلى أيام مؤتة وحنين وتبوك، حتى استقامت نفوسهم وزكت قلوبهم وصلحت أعمالهم، فما قبض الله تعالى صفيه من خلقه إلا وقد صاروا أهلاً لحمل الأمانة وإبلاغ الرسالة والقيام بأمر هذا الدين كله.
فاجتثوا خبث المرتدين، ثم ثنوا بالدولتين العظميين فركبوا إليها البر الأجرد والبحر الأخضر، وما كانت إلا سنوات معدودات حتى أنفقت كنوز كسري وقيصر في سبيل الله عز وجل، وأصبحت الظعينة تسير من خراسان إلى الأندلس لا تخاف إلا الله، ودفع ملوك الهند والصين الجزية لأتباع خاتم المرسلين، وخمدت نار المجوسية وخنست النواقيس والصلبان إلى غياهب أوروبا الهمجية، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون.