صورته العبدية الهزيلة لتضخم وتشغل مكان الألوهية العظيمة، وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها، وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها وإقامة طقوس العبادة لها.
وهو جهد ناصب لا يفرغ أبدا؛ لأن الصورة العبدية الهزيلة تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل، وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال وأرواح - أحيانا - وأعراض. ولو أنفق بعضها في عمارة الأرض والإنتاج المثمر لترقية الحياة البشرية وإغنائها لعاد على البشرية بالخير الوفير، ولكن هذه الطاقات والأموال والأرواح أو الأعراض لا تنفق في هذا السبيل المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده إنما يدينون للطواغيت من دونه.
ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده وعبادة غيره من دونه، وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض والقيم والأخلاق، فوق الذل والقهر والدنس والعار. وليس هذا في نظام أرضي دون نظام وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات.
* والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية التي يعبر القرآن عنها بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام؛ إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم، وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد، وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق، ثم هي بعد ذلك لا قبله قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع تجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام وتنفذ فيها الأحكام.
وكذلك إن قضية العبادة ليست قضية شعائر، وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة، وإنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه الرسل ليواجهوا الجاهلية العنيدة" (1)
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن 153- 162؛ مقتطفات.