ولهذا في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً [1] حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً"، فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها والعلوم التي لا تنفع والمفاكهات والحكايات ونحوها.
وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغا ولا قبولا فتعدته وجاوزته إلى محل سواه ... " [2] .
وليس تعليل هذا مما يشكل، بل هو واضح لمن تأمله، وبه يظهر خطر البدع - التي هي وضع غير إلهي لطريق العبودية - أي صرف للحرث والهم عما شرعه الله إلى ما شرعه غيره.
على أن الذي يهمنا هو أن وقوع البدع الذي لم يخل منه دين قط هو في ذاته دليل على عدم انفكاك العبودية عن الإنسان؛ فإنه إن لم يتعبد متبعاً تعبد مبتدعاً.
ومما يبين ذلك أن " الشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروي مرفوعا: " إن كل آدب يجب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن ".
ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله - إن أكل منه - إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه.
فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره. بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظيم محبته له ومنفعته به ويتم دينه ويكمل إسلامه.
ولهذا تجد مَنْ أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه، ومن أكثر السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام. ونظائر هذه كثيرة. [1] مضارع، من يرى يري. [2] الفوائد، ص 29 - 30